العمليات الروسية الحالية لمكافحة الإرهاب في سوريا ليست الأولى من نوعها، وإنما استمرار للنهج الذي أعلنت عنه موسكو منذ طلب دمشق رسميا منها التدخل العسكري للمساعدة في مكافحة الإرهاب. وبصرف النظر عن اتفاق بعض الدول الإقليمية والقوى الدولية مع الإجراءات الروسية، إلا أن الواقع فرض نفسه على الجميع، وعليه أن يفرض نفسه إلى أن يعثر الجميع على صيغة للعمل وتحقيق المصالح، لأن البديل هو الصدام المباشر، أو في أحسن الأحوال بقاء الشعب السوري رهن مغامرات غير محمودة العواقب. و"أحسن الأحوال" هنا، هو أمر أسوأ بكثير لأن الأمر يتعلق بحياة شعب بالكامل يتم تشريده وتهجيره وتدميره. وهو الذي يعاني في كل الأحوال وفي أي حال من الحالين المطروحين أعلاه.
السيناريوهات التي تطرحها وسائل الإعلام والتقارير الصحفية، تتأرجح بين نظرية المؤامرة والعصف الذهني و"التكهن". فالبعض يرى أن المكالمة الهاتفية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، أدت في جزء منها إلى بدء العمليات في حمص وإدلب. وهو ما يعطي انطباعا بأمرين: إما أن روسيا حصلت على ضوء أخضر من الولايات المتحدة الترامبية بشن هجمات على مدن سورية، أو أن المكالمة الهاتفية كانت عاصفة لدرجة أنها دفعت الروس إلى بدء حرب ما. وفي الحقيقة، يبدو الأمر لا هذا ولا ذاك، لأن موسكو لا تتلقى أوامرها من واشنطن عموما، وفي مسائل غير متفق عليها على وجه الخصوص، وإنما تتحرك انطلاقا من مصالحها التي يحددها مركز القرار في روسيا. أما افتراض أن المكالمة كانت عاصفة بين بوتين وترامب، فهو احتمال مثير للدهشة، لأن قرارات ترامب في الوقت الراهن لا تملك أي قيمة، وليس لها أي مفعول لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها.
هنا ننتقل، على سبيل المثال، إلى اللقاء الذي يتم التخطيط له بين وزيري خارجية روسيا سيرغي لافروف والولايات المتحدة جون كيري في العاصمة البيروفية ليما في 17 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي على هامش قمة وزراء خارجية منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ " أبيك". هذا اللقاء يأتي على خلفية مرحلة انتقالية للإدارة الأمريكية الحالية. وهي مرحلة تكاد تكون تحركات تلك الإدارة فيها بدون أي قيمة أو معنى، إلا فقط في محاولات غسل اليد من أي مسؤوليات أو جرائم، ووضع بعض العقبات أمام الإدارة الجمهورية المقبلة، والسعي لوضع ترامب شخصيا في مأزق: إما مواصلة خط الديمقراطيين، أو تحمل المسؤولية عما سيحدث. هذا على الرغم من أن الإدارة الديمقراطية نفسها هي التي تسببت تقريبا في كل الأزمات المحيطة بالملف السوري، وغيره من الملفات الساخنة.
الإدارتان الأمريكيتان الحالية والمقبلة تقعان الآن في منطقة رمادية تشبه حالة الفراغ السياسي في دول الموز أو في تلك الدول غير المستقرة. وهو ما يتسبب في ظهور فراغ سياسي وأعطال في البوصلات السياسية أيضا ليس فقط في بعض الدول الحليفة للولايات المتحدةن بل وفي الأزمات والملفات المشتعلة. وبالتالي، فمن الصعب أن ننتظر أي شيء من الإدارة الأمريكية الحالية، إلا المزيد من التطرف والتوريط وخلط الأوراق، سواء بخصوص أوكرانيا أو سوريا أو بقية الأزمات القائمة. ولا يمكننا أن نستجيب إلى تلميحات أو إيحاءات من الإدارة المقبلة التي لم تشكل بعد فريقها، ولا تملك حتى تصريحاتها أي قيمة. هذا على الرغم من ضرورة الحرص والحذر واختبار الأوضاع والتوجهات. وهو ما يحاول البعض أن يفعله، مثل دول أوروبا الشرقية القلقة على مصيرها، ودول البلطيق التي ترتجف من إمكانية ظهور أي تحولات في سياسات الإدارة المقبلة، وأوكرانيا التي بادر رئيسها بيترو بوروشينكو بالاتصال مع ترامب ليطلب منه مواصلة دعم أوكرانيا ضد "الاحتلال الروسي"!!
هناك سيناريو آخر يرى أنه كان من الضروري أن تقوم القوات الحكومية السورية، بغطاء جوي روسي، بدخول مدينة حلب، سواء قبل الانتخابات الأمريكية أو اثناءها، أو حتى بعدها وقبل أن يتسلم ترامب مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض. هذا السيناريو يتعامل ميكانيكيا مع الأحداث، ويحمل روسيا مسؤولية كل شيء وأي شيء. أي أنه مقابل دخول قوات التحالف الأمريكي إلى الموصل، يجب أن "تدخل روسيا" إلى حلب. مع أن الجميع يعلم جيدا أن لا قوات برية لروسيا في سوريا، وأن القوات الجوية هي التي تقوم بمهام دعم القوات الحكومية من الجو.
هذا السيناريو لا يتوخى أي مصالح لروسيا بقدر ما يتعامل بشكل متطرف وميكانيكي وسطحي مع الأمور، لأنه يرى أن معركة تحرير الرقة يجب أن تكون قيد مساومات بين موسكو وواشنطن، لعل وعسى أن تعود الأخيرة إلى الالتزام بالاتفاقات بين لافروف وكيري ويتم التعاون العسكري المباشر، أو أن تتعاون روسيا مع تركيا عسكريا في سوريا بدرجات ما، لكي تتمكن الأولى من كبح جماح التحالف الأمريكي. وهذه أيضا احتمالات ميكانيكية مباشرة تماما، لأن تركيا الأطلسية لديها مصالحها الخاصة من جهة، والتزاماتها تجاه حلف الناتو من جهة أخرى، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تنهار بين ليلة وضحاها مهما أطلقت أنقرة من تصريحات ساخنة. وفي كل الأحوال، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعول على كل التناقضات الممكنة لكي يتسنى له تحقيق أكبر قدر من مصالحه. وهذا ما يحدث على أرض الواقع. ولا يستبعد مراقبون أن يتجه أردوغان نحو حلب بعد استيلائه على مدينة الباب القريبة من حلب من ناحية الشرق. ولكن هذا الأمر سابق لأوانه. وأن أردوغان سيستفيد حتما من مواقعه المتقدمة سياسيا في حال طرح أي تسويات.
من الصعب ترجيح أي سيناريو من هذه السيناريوهات، في تلك المرحلة الانتقالية، والاعتماد على أن ترامب قد يقول، وقد يقرر، وقد يفعل، لأن ترامب وحده لا يقرر ولن يقرر. ومن جهة ثانية، من الصعب أن نفترض أن موسكو يجب أن تنفذ كل السيناريوهات الممكنة حتى وإن كانت متناقضة ومتضاربة مع بعضها البعض، ومع مصالح روسيا نفسها.
أشرف الصباغ