في الحقيقة لم يكن تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل هو البداية، ولكنه على الأقل كان أحد أسباب التحركات الحثيثة من جانب مصر على الأقل. ولكن الحديث هنا لا يكتمل إلا بحضور القضية الفلسطينية التي تشكل أحد المحاور للتحركات الجديدة.
إذا بدأنا بتركيا، فسنجد أن عودة العلاقات مع روسيا أعقبت الإعلان عن تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل. وفي الوقت نفسه، تمتلك تركيا علاقات جيدة مع حركة حماس، وإن كانت العلاقات مع سلطة الحكم الذاتي باردة نسبيا. كما تمتلك أيضا علاقات رفيعة مع تنظيم الإخوان المسلمين في مصر والتنظيم الدولي للإخوان أيضا. ولا يمكن تجاهل علاقات تركيا بكل من المملكة العربية السعودية وقطر.
أما إيران التي أعلن أحد مسؤولي الحرس الثوري فيها مؤخرا بأن "حزب الله" في لبنان يمتلك 100 ألف صاروخ جاهزة لإبادة إسرائيل، فهي تمتلك علاقات جيدة مع روسيا، وعلاقات مرضية مع تركيا، ولكنها في الوقت نفسه على خلاف حاد مع دول الخليج، وعلى رأسها السعودية. ووفقا لتحليلات وتقارير، فطهران تناور بكل الأوراق الممكنة للاستفادة من كل شيء بعد توقيع اتفاقها النووي، لأنها تريد بأقصى سرعة أن تعوض ما فقدته، وترغب في شغل موقعها الذي يليق بها إقليميا. وبالتالي، فلا مانع لدى طهران من المناورة على أكثر من محور واتجاه، سواء مع الحلفاء أو الأعداء أو المنافسين.
المثير هنا أن تركيا وإيران تملكان علاقات جيدة مع حماس. ولكن لا اتفاق بين طهران وأنقرة على تحقيق المشروع السياسي الإسلامي الذي تناصره تركيا. وفي الوقت نفسه، تمتلك الأخيرة علاقات أكثر من جيدة مع تل أبيب، بينما تواصل إيران إعلاناتها بشأن إبادة إسرائيل.
وعلى خلفية التناقضات بين مصر وكل من تركيا وإيران، ونظرا للأوضاع الاقتصادية المزرية في مصر وغرقها في الديون الخليجية، قامت تل أبيب بوضع الرتوش الأخيرة على مشروعها الأفريقي، بزيارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لأربع دول أفريقية ولقاء 7 من رؤساء القارة السمراء في مشهد تاريخي غير مسبوق.
وعلى الرغم من أن هناك اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، وبين الأخيرة وكل من فلسطين والأردن، إلا أن تل أبيب لا تفوِّت أي فرصة إلا واستثمرتها كما ينبغي بصرف النظر عن مصالح الآخرين. ولا يمكن أن نتجاهل أيضا التحليلات والمتابعات التي رافقت زيارة نتنياهو إلى الدول الأفريقية، وأن إسرائيل نجحت في خصم مساحات ضخمة من علاقات الدول الأفريقية مع الدول العربية، وبالذات مصر. بينما مصر نفسها أعلنت أنها لا ترى في جولة رئيس الوزراء الإسرائيلي في أفريقيا أي مخاطر أو تهديدات. واعتبر المراقبون مثل هذه التصريحات، ما هي إلا مهدئا للرأي العام الداخلي فقط.
وفي هذا الصدد أيضا أعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أن رصيد الدول العربية في علاقاتها مع نظيراتها الافريقية لن يتأثر بجولة نتنياهو، ما أثار الكثير من السخرية والتساؤلات في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. بل وركزت تقارير على أن مصر لديها مشكلات حقيقية مع الكثير من الدول الأفريقية، وعلى رأسها أثيوبيا التي تبني حاليا سد النهضة الذي تتخوف مصر من إمكانية تأثيره على حصتها من مياه النيل. بل وامتد الأمر إلى "ترعة السلام" التي تبنيها مصر من أجل إيصال مياه النيل إلى صحراء النقب، ضمن مشروع أوسع قد تتضح معالمه في السنوات المقبلة بشأن مشروع مياه كبير يضم مصر وإسرائيل والأردن.
هنا نصل إلى علاقات إسرائيل بمحيطها الإقليمي، لنكتشف – على الرغم من أن ذلك لا يشكل أي مفاجأة – أن علاقاتها بمصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية جيدة (بحكم معاهدة السلام)، وعلاقات تل أبيب بكل من الدوحة وبعض العواصم الخليجية الأخرى جيدة للغاية، وإن كانت بعض دول الخليج لا تزال تتردد في الإعلان رسميا عن ذلك. أما مسألة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية فقد أثارت جدلا حول علاقات الرياض وتل أبيب، ومدى رفع هذه العلاقات في المستقبل القريب إلى مستوى رفيع يسمح بالإعلام عن مشروعات إقليمية تمثل تحولا تاريخيا وسياسيا في المنطقة، وفي علاقات الدول العربية مع إسرائيل.
لقد أصبحت إسرائيل في قلب الأمتين العربية والإسلامية، بصرف النظر عن التصريحات والإعلانات الساخنة من جانب هذه الدولة التي تريد خداع الرأي العام المحلي، أو تلك الدولة التي ترى أن عداءها لإسرائيل يرفع من أسهمها ويفتح لها آفاقا أوسع للمناورة. لكن الطريف هنا أن كل الأطراف تتحدث عن سببين أساسيين لهذه التحولات التاريخية: ضرورة تسوية القضية الفلسطينية مرة واحد وإلى الأبد، ومحاربة الإرهاب الذي يهدد جميع دول المنطقة، ودول العالم الأخرى. ولكن إذا نظرنا بدقة إلى المشهد الحالي، سنجد أن القضية الفلسطينية لا تزال قائمة، بل تتفاقم في الكثير من الظروف والأحيان، رغم توقيع معاهدات سلام رسمية بين إسرائيل و3 دول عربية، ورغم كل التصريحات العربية والمؤتمرات والانتقادات والشجب والاستنكار.
أما موضوع مكافحة الإرهاب، فهو الأكثر إثارة للتساؤلات. فهناك تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة يحارب الإرهاب في سوريا والعراق. وهناك تحالف عربي بقيادة السعودية يرى هو الآخر أنه يكافح الإرهاب و"يضبط الأمور" في اليمن. وهناك تحركات لسفن الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط وبالقرب من شواطئ ليبيا تحديدا. فضلا عن وجود السفن والأساطيل الأمريكية والأطلسية والروسية في البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه تتسلح الدول العربية حتى أسنانها، وتتحول تدريجيا إلى مستودعات سلاح من كل حدب وصوب. رغم كل ذلك، تتسع رقعة الإرهاب، وتتزايد مخاطره وتهديداته.
يبدو أن المسألة لا علاقة لها لا بتسوية القضية الفلسطينية ولا بمحاربة الإرهاب، بقدر ما تتعلق بشكل مباشر بإجراء تحولات سياسية واقتصادية وجغرافية – حدودية في منطقة الشرق الأوسط، ربما من أجل ظهور دويلات جديدة في المنطقة، أو التقليل من تأثير ونفوذ قوى إقليمية ما، وفي المقابل دعم قوى أخرى للقيام بأدوار جديدة.
أشرف الصباغ