فخلال الشهرين الماضيين بعثت أنقرة برسائل كثيرة إلى موسكو تفيد بضرورة تطبيع الأمور، والتعامل بمرونة مع "جريمة" إسقاط سلاح الجو التركي القاذفة الروسية وقتل أحد طياريها. ولكن موسكو تمسّكت بموقفها، ومن ثم بمطالبها التي تلخصت في ضرورة اعتذار الجانب التركي، وتحمل أنقرة كافة التبعات المترتبة على ذلك.
من جهة أخرى حاولت تركيا المراوغة، وعدم الاعتذار الرسمي لكي لا يترتب على ذلك إجراءات أخرى وتعويضات. ولكن الموقف الروسي الصارم كان بمثابة إنذار بالغ القسوة بالنسبة للاقتصاد التركي من جهة، وكان عدم إقدام روسيا على حلول عسكرية للرد على العدوان التركي بمثابة حكمة وعقلانية ودبلوماسية رفيعة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من تصريحات الرئيس التركي السلبية بشأن التعاون مع أوكرانيا، وبشأن شبه جزيرة القرم الروسية، وتحركاته في بعض الساحات السياسية المعادية لروسيا، وتكيِّل الاتهامات لموسكو، إلا أن التفكير السليم قد انتصر في نهاية المطاف، وأعلن الكرملين أن الرئيس الروسي تلقى رسالة اعتذار صريح من نظيره التركي رجب طيب إردوغان، أكد فيها على أن روسيا بمثابة صديق وشريك استراتيجي، ولم ترغب السلطات التركية في إفساد العلاقة معها، ومستخدما في الوقت نفسه كلمة "أعتذر"، وعبر عن أسفه العميق بشأن هذا الحادث، وأكد استعداده للقيام بكل ما يمكن لإعادة علاقات الصداقة بين تركيا وروسيا. وهو ما يمثل خطوة أولى، يجب أن تتبعها خطوات أخرى، نحو تطبيع العلاقات.
لم تكن هذه الخطوة من جانب أنقرة مفاجئة، لأن التصريحات الرسمية الروسية منذ نهاية مايو/ أيار الماضي قد اتجهت نحو التهدئة. وهو ما فسره مراقبون بأن الجانب التركي تمكن من العثور على قنوات إلى روسيا وأعطى انطباعات بإمكانية تهيئة الأجواء لترميم العلاقات التي تسببت أنقرة في إفسادها.
في نهاية مايو الماضي، وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعوة جديدة للعقلانية وحسن الجوار والحفاظ على ما وصلت إليه العلاقات الاقتصادية والإنسانية بين روسيا وتركيا. إذ أعلن أن روسيا "تود استئناف العلاقات مع تركيا وتنتظر خطوات محددة من قبل أنقرة في هذا الاتجاه، لكن أنقرة لم تقدم بعد على هكذا خطوات". وأوضح أن "روسيا لا تحارب في سوريا جيوشا نظامية بل تقاتل مجموعات إرهابية.. لم يخطر ببالنا أن مقاتلة تركية يمكن أن تضرب قاذفتنا المكشوفة بالنسبة للمقاتلة. لم نكن نريد محاربة تركيا وإلا لكنا تصرفنا بشكل آخر ووسائل أخرى. آمل ألا تصل بنا الأمور إلى هذا الحد أبدا".
بهذه الرسالة التي انقسمت إلى شقين، قدَّم بوتين مساحة جديدة عقلانية وبرغماتية لحوار بين دولتين كبيرتين لديهما طاقات وقدرات يمكنها أن تغير الوضع في المنطقة لصالح الجميع. وهو في الوقت نفسه، يهمس لأردوغان، بأن من يلعبون على التناقضات بين موسكو وأنقرة يعرفون جيدا "الانفعال التركي" و"المكابرة". ولذلك راهنوا على إفساد العلاقة بين موسكو وأنقرة إلى النهاية.
كان من المتوقع أن تنفعل روسيا وترد ردا عسكريا على إسقاط تركيا القاذفة الروسية. وذهب الكثير من التحليلات إلى إشعال الموقف، وإلى توقعات سوداوية ومتشائمة. ولكن كل ذلك لم يحدث، لأن موسكو تعاملت بعقلانية وبرغماتية وحكمة مع هذه المسألة المعقدة. وأدركت أن هناك أطرافا عديدة تعرف جيدا التركيبة النفسية والذهنية لأردوغان وانفعالاته من جهة، وتراهن على أزمات أردوغان الداخلية التي تدفعه لمناورات سياسية و"إعلانية" للحفاظ على سلطته.
لقد همس الرئيس الروسي لأردوغان بأن "السلطات التركية قدمت إيضاحات دون أن تقدم اعتذارا ولم تعبر عن استعدادها للتعويض.. نسمع تصريحات حول الرغبة في استئناف العلاقات... نحن أيضا نود استئناف العلاقات، لكن ليس نحن من قوضها. نحن قمنا بكل ما بوسعنا طوال عقود لنقل العلاقات الروسية التركية إلى مستوى غير مسبوق للشراكة والصداقة. صداقة الشعبين الروسي والتركي وصلت بالفعل إلى مستوى عال".
يبدو أن الدبلوماسية الروسية من جهة، وإصرار الكرملين على عدم التنازل عن حقه بشأن إسقاط القاذفة الروسية من جهة أخرى، أقنعا إردوغان ليس فقط بصحة موقف روسيا، بل وأيضا بضرورة تنقية الأجواء، والالتفات إلى عوامل تأثير في منطقة إفساد العلاقات وإيصالها إلى الخطوط الحمراء.
ومن الواضح أن إردوغان، وفي ظل التحولات الإقليمية والدولية وما يحدث في الاتحاد الأوروبي، أدرك أنه لن يخسر شيئا إذا دقق النظر حوله في الداخل والخارج ووضع يده على المصالح الحقيقية لبلاده، وتحسين علاقاتها بجيرانها الكبار. ومن الطبيعي هنا أن لا ننتظر تطبيعا فوريا أو تحسنا واسعا للعلاقات خلال وقت قصير، فهناك العديد من عوامل الاختلاف في الملف السوري وحوله، وهناك تحركات حلف الناتو الذي يضم تركيا، ويتحرك في اتجاه الحدود المباشرة لروسيا.
قد تتناقض مصالح أطراف عديدة بشأن إمكانية التقارب الروسي – التركي. وقد تقلق أطراف أخرى من هذا التقارب متصورة أنه ضد مصالحها أو طموحاتها. ستظهر تناقضات وتفسيرات وتأويلات، ولكن في كل الأحوال، التقارب الروسي – التركي يخص روسيا فقط ومصالحها، ويدعم خطواتها في هذا الملف أو ذاك. إضافة إلى أمر مهم جدا، يتلخص في أن العلاقات الاقتصادية – التجارية بين موسكو وأنقرة، علاقات مهمة وصل فيها حجم التبالدل التجاري (قبيل الأزمة) إلى 40 – 60 مليار دولار سنويا، وكان من المقرر إيصال هذا المبلغ إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2020. أي أن العامل الاقتصادي مهم جدا لروسيا كما هو مهم لتركيا. وبالتالي، فتطبيع العلاقات بين روسيا وتركيا، حتى وإن لم يتم بشكل فوري، فإنه مهم للاقتصاد الروسي، ومهم لتحركات موسكو السياسية التي تخدم مصالحها المباشرة جدا.
أشرف الصباغ