زعيم النازيين، تعهد لجنده عشية إصدار أوامره لهم باجتياح الأراضي السوفيتية فجر الـ22 من يونيو/حزيران 1941، أنه لم يتبق أمامهم سوى حرب أخيرة وخاطفة لبضعة أشهر، فهم أركعوا الجميع، و"استحقوا" شرف كسر آخر وأعظم دولة في أوروبا والعالم والاحتفال بعيد الميلاد في ساحتها الحمراء.
وبين التعهدات التي قطعها على نفسه أمامهم كذلك، أن يكون لكل ألماني بعد إخضاع موسكو، ثلة من العبيد الروس في خدمته، ومساحات لا متناهية من الأراضي الزراعية الخصبة، فالألمان هم الأنقى عرقا والأقوى على وجه البسيطة وأي أمر لهم مطاع ولن يأمر عليهم ظالم ما بقيوا!
آمروهم، كانوا الروس الذين سخّروا 3,4 مليون أسير منهم وممن كانوا معهم في محورهم حسب البيانات الألمانية، في ترميم المباني التي دمروها في الاتحاد السوفيتي، وفي حفر أنفاق مترو جديدة في موسكو وكييف، وتشييد المباني والجسور بالوسائل اليدوية بزيّهم الهتلري، عبيدا كما أرادوا للآخرين، ليذوقوا طعم العبودية وهم بيض آريون، ويقلعوا عن أي طموحات لإذلال الآخرين وفي مقدمتهم الروس ما عاشت أمة الألمان ومحورها.
فحرب هتلر لبلوغ موسكو في أشهر معدودات استمرت لأربع داميات، وأدركت جحافل النازية والفاشية التي انهارت أمامها الجيوش قاطبة في معارك خاطفة، واستسلمت لها فرنسا في أربعين يوما، واستعرضها هتلر شخصيا في باريس، أدركت أن اجتياح روسيا لن يكون نزهة، وصارت تتفكر بمصداقية وعد قائدها الأعلى بدخول عاصمة الروس، والاحتفال بعيد الميلاد المقبل في قدس أقداسهم.
النصر بأي ثمن، ولا خطوة إلى الوراء، أساسان اتخذهما الجيش الأحمر سبيلا لصد المعتدين وانتزاع النصر مهما كان، فالغزاة أعدوا ما استطاعوا، ولم يبق للاتحاد السوفيتي سوى الحشد والتعبئة لمعمعة سماها حربا شعبية خاضها الشباب والنسوة والمسنون وتسابق فيها الجميع على التطوع وخدمة الوطن بأي إسهام كان.
الروس، ومعهم إخوة السلاح في الاتحاد السوفيتي، واجهوا العدو بصدر رحب، وهبوا للدفاع عن بلادهم مستلهمين بأغنية "الحرب المقدسة"، التي ألفها الشاعر الكبير فاسيلي ليبيديف-كوماتش، ولحنها اللواء ألكسندر ألكسندروف بعد يومين على اندلاع الحرب، "نشيدا لحماة الوطن"، التي تقول:
هبّي يا بلادي الشاسعة واستميتي في القتال
انهضي ونازلي قوى الظلام وفلول الفاشيين الملاعين
انهضي واغلي بهولك لتصبحي موجا عارما يغرق الغازين
اضطربي طوفانا في حرب شعبك المقدسة
قومي لصد من يريدون وأد أفكارنا النيّرة
انتفضي لدحر المغتصبين اللصوص معذبي البشرية
نأبى لأجنحة الظلام أن تحلّق في سمائنا
نأبى للمعتدين تدنيس ربوع بلادنا وحقولنا
رصاصنا سيدرك الفاشيين الأشرار في جباههم
بأيدينا سوف نواري حثالة البشرية ونحفر لهم أجداثهم
كانت تقشعر لكلمات هذا النشيد وألحانه أبدان من قاتلوا، وتتقد على إيقاعه قلوبهم لفداء الوطن ومواصلة البذل والتضحية، فيما تدمع عين كل من يسمعها في يومنا، إذ تصور لوحة حقيقية لأحداث أمرّ ملحمة شهدها التاريخ وكتبت سطورها بدماء الملايين.
ما من بيت في الاتحاد السوفيتي، لم يثكل قريبا أو حبيبا في هذه الحرب الضروس التي شنتها "خير أمة أخرجت للناس" حسب عقيدة هتلر وأتباعه، إذ لم يقبل الروس ومعهم حلفاؤهم في اتحادهم الذل والعبودية، وآثروا الموت واقفين كأشجار القيقب التي يتغنون بصمودها مذ حروبهم الأولى، مجسدين عبارات نشيد "حماة الوطن" التي ألهمتهم لتطهير أرض بلادهم وأوروبا من رجس الغاشمين، حتى حطموا لهم معبد نازيّتهم على رؤوسهم في برلين.
صفوان أبو حلا