وغنى هؤلاء الأطفال ورسموا لوحة تعبر عن الحاجة للسلام، ولإن كانت هذه المبادرة أمرا عاديا ومتجاوزا إلا أن ما يمنحها خصوصيتها هو السياق "الزمكاني" الذي احتضنها، فهي تشكل مبادرة ذات رمزية عالية وتتماهى مع سياسة عمانية تحتفي بالسلام وتمتهن إطفاء الحرائق وبناء جسور التقارب في محيط شرق أوسطي لا يعترف إلا بالخصومات والتضاد بل والتنافي المتبادل..
تشكل سلطنة عمان حالة تكاد تكون نادرة في عالم اليوم، الطافح بالتمايز الحدي والانتماءات والانتماءات المضادة لهذا المعسكر أو ذاك، فهذه الدولة رغم أنها عضو أصيل ومؤسس في مجلس التعاون الخليجي إلا أنها تشكل، وللمفارقة، حالة انسجام نادرة مع الجار الإيراني، وهو ما مكنها من لعب أدوار دبلوماسية استثنائية بدءا من وساطاتها المختلفة في إطلاق رهائن غربيين لدى الجانب الإيراني، وانتهاء بدورها الذي ظل خلف الكواليس إلى أن كشف مؤخرا، والمتعلق بمفاوضات الملف النووي بين طهران وواشنطن، فقد أظهرت التقارير المختلفة أن العمانيين لعبوا دورا حاسما، وبهدوء غريب بعيدا عن الأضواء، في عملية تقريب وجهات النظر بين الخصمين اللدودين، الولايات المتحدة التى ترى في إيران ركنا من أركان محور الشر، والطرف الثاني الجمهورية الإسلامية التي تعتبر أمريكا الشيطان الأكبر..
ورغم ما قيل حينها عن امتعاض سعودي من الدور العماني خلف الكواليس في هذا الملف، وعدم اطلاع السلطنة للملكة على تفاصيل ما يجري، إلا أن البعض يرى أن الرياض ليست مستاءة من الأدوار الدبلوماسية العمانية، بل على العكس من ذلك ترى أن الموقف العماني الوسط من الملفات الإقليمية الشائكة، قد يكون مدخلا مناسبا لحلحلة الكثير من الأزمات، ولضمان أن تتدخل مسقط عندما تصل الأمور بين دول المنطقة إلى الحافة..
الدور العماني المشهود في إبرام الصفقة الكبرى بين طهران والغرب، ليس الدور اليتيم لهذا البلد الهادىء والمتكئ على تاريخ ثري وشعب ودود، وإنما لعبت السلطنة أيضا أدوارا دبلوماسية توفيقية في ملفات أخرى لعل أبرزها الملف اليمني فلقد ظلت مسقط محجا ثبتا لوفود طرفي الصراع اليمني وللمبعوث الأممي ولد الشيخ أحمد، الذي كان يرى في عمان أرضا محايدة وفي العمانيين وسيطا مقبولا لدى الطرفين وهو ما جعله يلجأ إلى بلاد "الخريف الجميل" عندما تتعقد الأمور وتتشابك الملفات..
يراهن الكثير من المراقبين على دور عماني، ربما الآن وربما مستقبلا، لصناعة تفاهم على ضفتي الخليج بين الإيرانيين ودول الخليج التي تعتبر أن إيران انتهجت في السنوات الأخيرة سياسات طائفية وأحرقت كل المراكب مع العرب حيث دست أنفها في قضاياهم المختلفة من لبنان إلى العراق مرورا بسوريا واليمن، في وقت ترى فيه طهران أن القرار الخليجي مرتهن للسياسات الأمريكية التي تعتمد صناعة حالة احتقان طائفي تضعف الأمة وتحولها إلى أمة مستباحة العرض والأرض، ولا شك أن الدبلوماسية العمانية قد تلعب أدوارا كبيرة في صناعة تقارب خليجي إيراني يطفئ هذه الحرائق المشتعلة والتي تزداد يوما بعد يوما وتكاد تقضي على حاضر ومستقبل بلدان عديدة في المنطقة..
بقدر ما تشتهر سلطنة عمان سياحيا بـ"خريف صلالة" حيث الماء والخضراء والوجه الحسن، فإنها سياسيا ودبلوماسيا تشتهر بكونها "إطفائي حرائق" يحاول صناعة السلام بين الأطراف المتصارعة وخلق الوفاق والانسجام بين الشعوب والدول المختلفة.
محمد سعدن ولد الطالب