لا تزال وسائل الإعلام الروسية تتناول فوز المغنية الأوكرانية جمالا في مسابقة الأغنية الأوروبية في نسخة عام 2016 باعتباره فوزا سياسيا، علماً أن أغنية (1944) بحد ذاتها تبدو عادية بل أقل من عادية حتى بمعايير "يوروفيجن" الذي تراجع مستوى الأغاني المشاركة فيه منذ سنوات.. ولكن هل هذا هو المهم؟
علاوة على ذلك فإن أوكرانيا خالفت قواعد المسابقة بتقديمها أغنية قديمة، إذ لا تجيز الشروط المشاركة في "يورفيجن" 2016 بأغنية طُرحت قبل الأول من سبتمبر 2015. ولكن سُمح لـ"جمالا" المشاركة على الرغم من أنها أدت تلك الأغنية في مايو 2015، ما يذكر بمخالفة الأخوين أولسن اللذين مثّلا الدانمارك في مسابقة 2000، وذلك باستخدامهما تقنية حديثة آنذاك للتلاعب بالصوت، ولكن ذلك لم يحل دون المشاركة فحسب.. بل والفوز بالجائزة أيضاً.
وبالعودة إلى النكهة السياسة لأغنية جمالا.. هل "يوروفيجن" كان خالياً من السياسة قبل "1944" ؟ بالطبع لا.. حتى إن إحدى المشاركات أسفرت عن توتر في العلاقات بين المجر وإسرائيل، بسبب الأغنية المجرية في مسابقة 2015 wars for nothing بين بودابست وتل أبيب، علماً أن مؤدية الأغنية أفادت بأن الأغنية رسالة سلام.
وربما إسرائيل هي أكثر الدول التي شاركت في "يوروفيجن" بأغانٍ تحمل معاني سياسية، قد تكون أشهرها رائعة إيهود مانور وآفي توليدانو "حي" للمغنية عوفرا هازا في ألمانيا 1983، إذ أدى فريق مرافق لهازا رقصة الأغنية بملابس صفراء، وهو ما يحمل إشارة ليهود ألمانيا الذين كانوا يُجبرون على وضع نجمة سداسية صفراء اللون على ملابسهم.. بالإضافة إلى أن اسم الأغنية وكلماتها تتحدث "شعب إسرائيل الحي".
وربما لو أن المسابقة أجريت في أي بلد غير ألمانيا لما شاركت إسرائيل بهذه الأغنية.. بل ربما لم تكن لتشهد النور أصلاً في المسابقة التي أُقيمت في ميونخ، المدينة التي شهدت حادثة الاعتداء الشهيرة على لاعبي الفريق الإسرائيلي في أولمبياد 1972، ما أعطى لـ "حي" رمزية ثانية، ولتؤدي عوفرا هازا الأغنية بملابس بيضاء لتبدو حمامة سلام.
نعم هي رسالة ذات طابع سياسي لكنها من جانب آخر قد تبدو رسالة إنسانية أكثر من وجهة البعض.. وهو ما يرى البعض أن الإسرائيليين نجحوا في توجيهها مجدداً في الـ "يوروفيجن" 2000.. حين اختتمت الفرقة التي مثلت إسرائيل مشاركتها برفع علميّ إسرائيل وسوريا.
واصل الإسرائيليون اللعب على الوتر السياسي في مسابقة الأغنية بنسختها لعام 2009 في موسكو، حيث شاركت الفنانة الإسرائيلية - الفلسطينية ميرا عوض في ثنائي مع مواطنتها نورا بتأليف وأداء أغنية There must be another way، لتكون موسكو ثاني مدينة تُقام فيها مسابقة الـ "يوروفيجن" وتصدح فيها اللغة العربية، بعد أغنية "بطاقة حب" للفنانة المغربية سميرة سعيد التي أدتها في لاهاي – هولندا في عام 1980.. والتي لم تخل أيضاً من رسائل سياسية تلائم أجواء المدينة حيث محكمة العدل الدولية، بل رسائل قد تبدو في نظر البعض استسلامية
فقد جاء في كلمات الأغنية المغربية: نحن أطفال كل الدنيا.. طالبين عيشة رضية هنية.. ما فيهاش حقد، ما فيهاش نار.. ولا خصام بين جار وجار، وهو ما قد يدفع البعض إلى التساؤل عمّا إذا كانت سميرة سعيد تستثني إسرائيل كدولة جار. علماً أنه لو شاركت سميرة سعيد بهذه الأغنية في السنوات الأخيرة لما جاء فيها: والأصل واحد والكل إخوان.. كي لا تُتهم الفنانة من قِبل البعض بالتعاطف مع "الإخوان المسلمين".. ما يعيد إلى الأذهان المقولة الروسية.. "إذا لم تنشغل بالسياسة فالسياسة ستنشغل بك".
وعلى خلفية هذه المشاركات الفنية في الـ "يوروفيجن" ربما تكون مشاركة البوسنة والهرسك في عام 1993، وهي أول حضور للبوسنة في المسابقة، أكثرها وضوحاً، إذ تغنى الفنان فازلا بمعاناة وطنه صراحة وبالاسم، ولكن ذلك لم يثر حفيظة المشرفين على المسابقة، ولم تتم إثارة الأمر على نطاق واسع بإلقاء اللوم على منظمي المسابقة أو اتهامهم بتسييس المهرجان الموسيقي.. ليستمر التعاطف مع البوسنيين في العام التالي بتصفيق الجمهور الأيرلندي طويلاً لممثليّ البوسنة والهرسك ألما وديان ما أن صعدا إلى المسرح.
السياسة حاضرة في اليوروفيجن منذ سنوات، واقتصر حضورها في بعض الأحيان على منح الدول الشقيقة العلامة الكُبرى لبعضها البعض.. كما هو الحال بين قبرص واليونان أو رومانيا ومولدافيا أو تركيا وأذربيجان.. وحتى الإسكندانفيون، الذين قد يرى البعض أنهم موضوعيين أكثر من غيرهم، ينحازون إلى بعضهم البعض.
إذاً لا يبدو غريباً أن يصل الأمر بالـ "يوروفيجن" إلى التسييس شبه التام على حساب الإبداع.. وبغض النظر عما اذا كانت روسيا تستحق الفوز في المسابقة الأخيرة أم لا ؟
وبأي حال من الأحوال لا يبدو أن السياسة هي الورقة الرابحة أو الوصفة السحرية للفوز بمسابقة الـ "يوروفيجن" دائماً.. فبكل تأكيد لن تحصل روسيا على المركز الأول إذا شاركت في العام القادم بأغنية تخلد ذكرى ضحايا مجزرة "أوديسا"، كما اقترح أحدهم.. هذا إن لم تتسبب مشاركة كهذه بحصول الروس على المركز الأخير.. في حال المشاركة بالطبع.
علاء عمر