فمنذ أن نشرت التسريبات الأولى لوثائق بنما التي تضمنت معاملات وحسابات مالية خارجية لمشاهير وزعماء سياسيين، تسببت في إثارة موجة من ردود الأفعال المتباينة حول العالم، ووجهت هذه التسريبات سيلا من الانتقادات لعدة شخصيات سياسية بينها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. عائلة رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، دافعت بدورها عن امتلاكها شركات أوفشور، بعد أن ورد اسمها في أوراق بنما، فيما دعت المعارضة الباكستانية إلى التحرك ضد رئيس الوزراء نواز شريف.
وما يثير الدهشة في هذا الصدد، أن الولايات المتحدة كانت الغائب الأبرز عن هذه الفضيحة المالية الدولية التي دفعت ببعض الحكومات إلى فتح تحقيقات قد تطيح نتائجها بمسؤولين كبار.
كما رصدت بعض المواقع الأجنبية تجاهل الصحافة الأمريكية تغطية إحدى أكبر التسريبات في التاريخ، ففي الوقت الذي هيمنت فيه هذه القضية على أغلب مواد الصحف الأجنبية، خلت أبرز الصحف الأمريكية من أي تغطية واسعة للموضوع.
وفي التعليق على سبب تجاهل الصحافة الأمريكية هذه القضية، كشف موقع فوكاتيف الأمريكي عن أن 8 من أصل الصحف الأمريكية الـ10 الأعرق والأكثر رواجا، لم تعط "وثائق بنما" التغطية التي تستحق على صفحاتها، غداة الإعلان عنها، فيما اكتفت صحيفة، "واشنطن بوست" بتكريس زاوية صغيرة حول هذه المسألة في الصفحة الأولى، فيما خصصت صحيفة "يو إس إي توداي"، لها المانشيت الرئيسي.
هذا الغياب الواضح والملفت، تداوله أيضا بعض النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، وتساءلوا عن سر غياب تغطية الصحف الأمريكية غداة الإعلان عن التسريبات، وعدم إيفاء الحدث الاهتمام اللازم على غرار معظم الصحف العالمية.
الإدارة الأمريكية متورطة؟
بدوره، اتهم موقع "ويكيليكس" الإدارة الأمريكية بالوقوف وراء فضيحة "أوراق بنما" وأورد في تغريدة على حسابه في "تويتر" بأن تسريب وثائق شركة "Mossack Fonseca " جاء بتمويل مباشر من الحكومة الأمريكية والملياردير الأمريكي جورج سوروس.
من جانبه، نفى المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية، مارك تونر، تورط بلاده في عملية تسريب "وثائق بنما"، وقال في مؤتمر صحفي: "أنفي مشاركتنا في تسريب هذه الوثائق، ولقد أوضحنا أننا لن نتحدث عن محتوى الأوراق السرية".
موقع "fusion" تساءل أيضا عن سبب عدم ورود أسماء أي من الزعماء الأمريكيين في هذه الوثائق؟ ويكشف التقرير أن "الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين" ICIJ، تحقق من هويات 211 شخصية مرتبطة بـ"وثائق بنما" لهم عناوين في الولايات المتحدة، كما يشير التقرير إلى أنه لم يتبين حتى الآن ما إذا كانت الشخصيات المذكورة في هذه الوثائق أمريكية.
ونقل الموقع عن مار كابرا رئيسة وحدة البيانات والبحث في "الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين"، قولها إن اكتشاف العدد الحقيقي للأميركيين المتورطين في البيانات المسربة يعد أمرا صعبا، ومع هذا، فمن غير المستبعد أن يتساءل الجميع إذا كان هذا أكبر تسريب في التاريخ، فأين كل الأميركيين المتورطين إذا؟
لماذا لا نرى الأميركيين في وثائق بنما؟
موقع "fusion" وجه هذا السؤال إلى مجموعة من الخبراء لتفسير مسألة غياب الأمريكيين عن " وثائق بنما"، حيث تعتبر شيما باراداران بومان، وهي أستاذة جامعية في كلية القانون في جامعة يوتا الأميركية، أن الأميركيين قادرون على تسجيل شركات وهمية في ولاية وايومنغ، أو ولاية ديلاوير، أو ولاية نيفادا الأميركية، بما يستثني الحاجة للذهاب إلى بنما من أجل تدوين شركة وهمية لاستغلالها هناك في أنشطة لا مشروعة.
ويتفق مع بومان في هذا الرأي جيمس هنري، كبير المستشارين لدى شبكة العدالة الضريبية TJN، حيث يشير إلى أن الأميركيين يستخدمون "الأوفشور" في كل الأوقات، وهم من الرواد الذين لجؤوا إلى تلك الأساليب.
وعاد هنري بالذاكرة إلى السبعينات، إلى قضية مشابهة في تلك الفترة عرفت بقضية مصرف "كاسيل بانك آند تراست"، وهو بنك يقع في جزر البهاما ويساعد في عمليات التهرب الضريبي، حيث كشفت القضية عن تورط 200 شخصية أميركية معروفة في تلك الفترة، لكن ما حدث اليوم هو أن الأمريكيين اكتشفوا أنهم لا يحتاجون فعلا للذهاب إلى بنما للتهرب الضريبي، موضحا أن الولايات المتحدة لديها صناعة داخلية للتهرب الضريبي وهي تحافظ على السرية مثل أي مكان آخر.
لماذا بنما؟
لقد طرح هذا السؤال بعد الكشف عن 11.5 مليون وثيقة سربت من مكتب المحاماة في بنما "موساك فونسيكا"، ويقول "الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين الاستقصائيين" إن الشركة ساعدت في إنشاء شركات وهمية سرية وحسابات خارجية لعدد من ذوي النفوذ وقادة الدول والسياسيين البارزين.
وتعود شهرة بنما كـ"ملاذ ضريبي" إلى أكثر من قرن، وفقا لدراسة نشرها المعهد النرويجي للبحوث في الاقتصاد وإدارة الأعمال.
ففي أواخر العشرينيات من القرن الماضي، ساعد المدراء التنفيذيون في "وول ستريت" بنما على سن تشريعات تسمح لأي شخص بإنشاء شركة مجهولة معفاة من الضرائب.
وبعد نحو 60 عاما، جاءت أموال المخدرات مع وصول الديكتاتور البنمي مانويل نورييغا، إلى السلطة سنة 1983، فيما تفيد دراسة أجراها صندوق النقد الدولي سنة 2014، بأن موقع بنما الجغرافي على الحدود مع الدول ذات المستويات العالمية الأعلى من الإنتاج غير المشروع للمخدرات والاتجار بها، جعلها تتعرض لمخاطر كبيرة عبر استخدامها ملاذا لغسيل الأموال.
استثناء الولايات المتحدة من "وثائق بنما" لا يبرئها بأي شكل من الأشكال، ولا يصنفها كنموذج للشفافية والنزاهة، إذ ساهمت عوامل عدة في تخفيها عن أكبر فضيحة في التاريخ.
المصدر: وكالات