وعلى الرغم من قصر مدة حكمه نسبيا، إلا أن ما قام به في تلك الحقبة ظل يرسم أقدار مصر والمنطقة، ولم يجرؤ من جاء بعده على تغيير الوضع الذي تركه وراءه أو حتى المساس به.
فعل السادات ما لا يخطر على بال، فترك كل التوقعات خلفه وفاجأ الأعداء والأصدقاء. بدأ مشواره بحرب أكتوبر 1973 ثم زار إسرائيل في العام 1977، وأسدل باتفاقية كامب ديفيد في العام 1979 الستارة تماما على "المعركة" التي تواصلت بين مصر وإسرائيل منذ العام 1948، في محطات عديدة كان أعنفها وأخطرها هزيمة حزيران 1967.
سارع محمد أنور السادات إلى كفكفة دموعه على فراق جمال عبد الناصر وسار ببلاده في طريق أخرى غير تلك التي اختطها الزعيم الراحل، وانهمك، على الرغم من الضغوط الشديدة والرفض الواسع لنهجه، في رسم تاريخ مصر بنفس جديد، وعناد شديد، وأتقن "ابن القرية" و"العائلة الكبيرة" فن المراوغة، وتمكن من السير في مغامرته حتى نهاياتها من دون أن توقف.
وهكذا، كتب السادات تاريخه الخاص المدوي الذي قلب الأوضاع في مصر والمنطقة رأسا على عقب، وبقي شخصية جدلية تتفاوت المواقف المناصرة والمعادية حيالها، لكنها في أغلب الأحيان تكون حادة ومليئة بالانفعالات.
شخصيات متعددة بل ومتناقضة حملها محمد أنور السادات وأتقن أدوارها، متنقلا جيئة وذهابا من ابن الترعة البسيط بجلبابه الصعيدي وتقاليده الراسخة، إلى المرشال بزيه المهيب وصولجانه ونياشينه، إلى الرئيس "المؤمن".
وعند طور الرئيس "المؤمن" نتوقف قليلا لنتعرف بطريقة قريبة على السادات، الرجل الذي رحل عن الدنيا لكنه بقي في التاريخ والذاكرة، صانع قرار لم تتجاوزه الأيام على الرغم من مرور 35 عاما على مقتله.
لم تمر أشهر قليلة على وصوله إلى سدة الحكم حتى بدأ السادات في تغيير تضاريس مصر السياسية الداخلية، فضرب مراكز القوى فيما عرف بثورة التصحيح في مايو 1971، وسن في العام نفسه دستورا جديدا للبلاد وهيأها للدخول إلى عصر آخر لم يدر بخلد أحد.
قلب الموازين في مصر، وقلب في الوقت ذاته ظهر المجن رسميا للزعيم الراحل جمال عبد الناصر بقرار الانفتاح الاقتصادي سنة 1975.
وواجه الاحتجاجات الشديدة على انفتاحه الاقتصادي من قبل التيارات الناصرية واليسارية، عبر دعم التنظيمات الإسلامية وتمويلها وإفساح المجال أمامها لمنافسة خصومه وبخاصة في الجامعات.
تلا ذلك إصدار الرئيس المصري الأسبق في يناير من عام 1980 قانون "حماية القيم من العيب"، الشهير بقانون العيب، ثم نال لقب الرئيس المؤمن في عام 1981 بعد أن قال في خطاب له "أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة"، وفي هذا الخطاب تحديدا أعلن عن حملة الاعتقالات الكبيرة التي أوصلت التوتر في البلاد آنذاك إلى أقصى مداه.
لم يتمكن السادات من الإمساك بجميع الخيوط، ولم يستسغ خصومه مظهره الأثير بزي المرشال وعصا السلطة ونياشينها، ولذلك لم تتوقف الأرض عن الارتجاج تحت قدميه، وهي ظلت كذلك حتى اللحظات الأخيرة في 6 أكتوبر عام 1981، حين ارتجت على وقع استعراض أرتال المدفعية والدبابات والعربات، قبل أن تتوقف إحداها ويخرج منها عدد من الجنود مسرعين برشاشاتهم إلى المنصة لتنهي رصاصاتهم حياة من يصفونه بالفرعون.
طويت صفحة الرئيس "المؤمن" برصاص "مؤمنين" آخرين حاكموه غيابيا في الخفاء ونفذوا فيه حكمهم وهو بزيه العسكري المهيب، في ذكرى الانتصار في حرب أكتوبر على أعداء الأمس، أصدقاء اليوم.
محمد الطاهر