يبدو أن شروع روسيا في تنفيذ مبادرتها بسحب الجزء الأساسي من قواتها من سوريا أحبط بعض الخطط والسيناريوهات التي كانت تحاك للإبقاء على القوات الروسية لأطول فترة ممكنة في سوريا. ولكن موسكو اعتمدت سيناريو مغاير تماما يحافظ على مواردها من جهة، ويضمن شكلا من أشكال التوازن على الأرض من جهة أخرى. إضافة إلى الحفاظ على مواقع روسيا كدولة كبرى لها مصالح مختلفة ومتنوعة في المنطقة، والحفاظ أيضا على دور روسيا في أي تسويات سياسية في الأزمة السورية أو في غيرها من الأزمات التي تشعل الشرق الأوسط والمناطق المجاورة له.
لقد اعترف جميع الأطراف بأن الهدنة التي تم التوصل إليها في سوريا، هي هدنة هشة، نظرا لأن هناك عدة أطراف من مصلحتها استمرار اشتعال الأوضاع وتفاقمها. بمعنى أن التصريحات والإعلانات السياسية والإعلامية تسير في اتجاه، بينما تسير الممارسات على الأرض في اتجاه آخر. وهو ما يعني أيضا أن التصريحات السياسية والإعراب عن الرضى والترحيب غير كافية على الإطلاق لحل مثل تلك الأزمة التي أصبحت في مركز اهتمام العالم.
وعلى الرغم من استمرار مفاوضات "جنيف 3"، إلا أن انتهاك الهدنة مستمر ومتواصل. وفي الوقت نفسه يماطل العديد من الأطراف في مناقشة المقترحات الروسية للحفاظ على تلك الهدنة والرد على منتهكيها. ما دفع هيئة الأركان الروسية إلي التحذير بأنها ستتحمل بمفردها مراقبة وقف إطلاق النار فى سوريا، اعتبارا من 22 مارس/ آذار الجارى، إذا لم تتلق ردا من واشنطن على ذلك. وأسست هيئة الأركان الروسية تحذيرها هذا على أن "واشنطن غير مستعدة لمناقشة نص مشترك بشأن مراقبة وقف إطلاق النار فى سوريا". بل وذهبت هيئة الأركان إلى دعوة مسؤولين أمريكيين إلى عقد لقاء لبحث تطورات وقف إطلاق النار. وفي الحقيقة فهذه المقترحات ليست جديدة على الإطلاق، لأن موسكو طوال الأشهر الأخيرة تدعو واشنطن وغيرها من العواصم الغرية والعربية إلى إقامة أشكال مختلفة للتعاون من أجل إيجاد سبل لتسوية الأزمة السورية. ولكن يبدو أن هذه العواصم كانت تعوِّل على بقاء القوات الروسية لفترة طويلة في سوريا، ومن ثم يمكن التعامل مع الأزمة وفق معادلات أكثر مكرا.
إن مماطلة الولايات المتحدة في التعامل مع المقترحات والدعوات الروسية للمضي قدما في تنفيذ الاتفاق الروسي – الأمريكي تعطي انطباعا بأن واشنطن لم تفق بعد من صدمة قرار بوتين بسحب الجزء الأساسي من القوات الروسية. وعلى الرغم من أن الاتفاق بين روسيا والولايات المتحدة لقى ترحيبا واسعا، إلا أن ذلك لا يعني إطلاقا أن واشنطن قد تخلت عن خططها وسيناريوهاتها السابقة، أو حتى التخلي عن حلفائها من "الصقور". بل على العكس تماما: تحاول الولايات المتحدة الالتفاف على الاتفاق للحفاظ على وضع خاص لها من جهة، وكبح جماح الحلفاء لا للضغط عليهم، بل لعدم إفساد الطبخة الأمريكية نفسها من جهة أخرى.
لقد أجمل الرئيس الروسي نتائج الأشهر الست الماضية حول تواجد القوات الروسية في سوريا في 12 نقطة، وهي كالتالي:
-قوات الطيران التكتيكي والاستراتيجي تحملت المسؤولية عن تنفيذ أهم وأخطر المهمات في سوريا.
-القوات الروسية نفذت مهماتها في سوريا بشكل ممتاز وكانت تعمل بشكل فعال ومنسق.
- مهمة روسيا في سوريا كانت تتمثل في مكافحة الإرهاب لكي لا ينتقل إلى الأراضي الروسية.
-القوات الجوية الروسية هدفت منذ البداية إلى دعم العمليات الهجومية للجيش السوري ضد المنظمات الإرهابية.
-إقامة تعاون إيجابي وبناء مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول، وكذلك القوى المعارضة المسؤولة داخل سوريا.
-موسكو أكدت مباشرة أنها لا تنوي التورط في النزاع السوري الداخلي.
-ميزان القوى في سوريا سيضمن بعد سحب القوات الروسية الرئيسية من هذا البلد.
-روسيا عززت القوات المسلحة السورية التي أصبحت الآن قادرة ليس فقط على صد الإرهابيين، بل وإجراء عمليات هجومية ناجحة ضدهم.
-منظومات الدفاع الجوي الروسية، بما في ذلك صواريخ "إس - 400"، ستقوم بدوريات قتالية دائمة في سوريا.
-موسكو أبلغت كل شركائها بأنها ستستخدم منظومتها للدفاع الجوي ضد أي هدف تعتبره خطرا على عسكرييها.
-الأسلحة الروسية الحديثة اختبرت بنجاح في ظروف القتال الحقيقي. ما سيسمح لروسيا برفع فعالية وقدرات أسلحتها.
-روسيا ستزيد قواتها في سوريا لتصل إلى المستوى المناسب خلال بضع ساعات إذا اقتضت الضرورة ذلك.
كل ذلك يعني أن روسيا متواجدة في المنطقة كأمر واقع. وأحد الأطراف الدولية الفاعلة في مكافحة الإرهاب. وشريك مهم لأطراف إقليمية ودولية في التعامل مع الأزمات. وضامن لأي اتفاقات يتم التوصل إليها في هذه الأزمة أو تلك. ولكن يبدو أن هذه الشراكة لا تروق لأطراف بعينها.
أشرف الصباغ