عناق وسلام وحوار أخوي جمع قطبي الكنيستين الأرثوذوكسية الروسية والكاثوليكية الرومانية على أرض هافانا عاصمة جزيرة الحرية، معقل الاشتراكية الباقي وحلبة التحدي والثورة في وجه الرأسمالية، تزامنا مع اقتتال وإرهاب تدور رحاهما في المشرق ويريقان دماء المسيحيين والمسلمين بلا تمييز بين مذهب أو طائفة.
عيون العالم كانت مشدودة إلى هافانا، ومشاعر الترقب عمت قلوب المسيحيين في روسيا والمشرق وأوروبا، أملا في أن يتمخض عن لقاء الغبطة والقداسة سلام يعم العالم، ما انفكت تنادي به المسيحية منذ أيامها الأولى.
فكيف لا، ومواضيع البحث بين البطريرك والبابا ركزت على منع اضطهاد المسيحيين وكف بلاء الإرهاب عنهم في سوريا والعراق وشمال إفريقيا، فضلا عن قضايا أخرى، بدءا مما يسمى "بزيجات المثليين"، وصولا إلى ما حل بالقيم الأخلاقية والأسرية في الغرب.
اجتماع البطريرك والبابا الذي عقد في كوبا، بما يحمله في طياته من دلالات تمحو الحدود السياسية وتزيلها من فكر البشرية حينما يتعلق الأمر بقدسية النفس البشرية وحرمة إزهاقها، استمر لثلاث ساعات قصار، فلكل من القطبين برنامج يحكم زيارته وطوافه في بلدان العالم الجديد، فضلا عن أن خير الكلام في ما قل ودل.
ومن خير الكلام الذي نبست به شفاه الغبطة والقداسة دعوتهما العالم، وتزامنا مع مؤتمر ميونيخ الأمني، إلى حماية مسيحيي المشرق الذين يتعرضون للقتل والتهجير ونهب كنائسهم وتدنيس مقدساتهم في خضم اضطرابات بدأت "بثورات ربيعية" خططت لها قوى ضربت بالإنسانية والمسيحية والإسلام عرض الحائط وآثرت الذود عن مصالحها الآنية، غير آبهة بالتبعات، فالثمن يبذله أهل المشرق على اختلاف دياناتهم وولاءاتهم.
المراقبون متفائلون، ويعولون على إصغاء المجتمعين في ميونيخ لصوت الكنيستين واتفاقهم على سبل وقف نزيف الدم في سوريا والعراق والعمل على إرساء السلام في العالم والكف عن سياسة المجابهات والتكتلات التي تفرز صدامات، بينها ما تشهد عليه الإنسانية في سوريا والعراق وشمال إفريقيا من قتل ودمار وعودة إلى عصور التشريد والتهجير والسبي والغزو وتجارة الرق.
جون كيري وزير الخارجية الأمريكي، ربما كان، ووفقا لما صرح به من ميونيخ، في مقدمة من استمعوا لنداءات الصليب، حيث أعلن على الملأ التزام بلاده بمحاربة الإرهابيين والالتحاق بركب روسيا، ولو في خطوة منقوصة تقتصر على تقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين في سوريا، مؤكدا أنه لا حل في هذا البلد ما دام الإرهاب ينكل بشعبه.
الرياض من جهتها، وتناغما مع الألحان التركية واستمرارا لنهج النفخ في نار الحرب السورية، سبق لها وأن أكدت أنها لن تتوانى عن اجتياح سوريا لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك من خلط للأوراق لا محل له على الساحة السورية، وكأنها سدت أذنيها مسبقا بطين وعجين كي لا تصغي لنداء السلام ودعوة التهدئة التي تصدر عن لقاء البطريرك والبابا من هافانا.
المراقبون بدورهم، وفي التعليق على تعهدات السعودية بالتدخل في سوريا برا، يجمعون على استحالته ويؤكدون أن لواشنطن حسابات تختلف عن تلك التي تجريها أنقرة والرياض، وأن التدخل، إذا ما تم، فإن واشنطن لن تنجد المتدخلين ولن تصطدم بموسكو، فتجربة ساكاشفيلي(جورجيا) وبوروشينكو(أوكرانيا) لا تزال حاضرة في ذاكرة الجميع.
أما أنقرة، فلم تدخر "سعيا". وتزامنا مع اجتماعات ميونيخ، وردا على مناشدات البطريرك والبابا وقف القتال في سوريا، وفي خطوة استفزازية إضافية، أمطرت الجانب السوري من الحدود بقذائف المدفعية والهاون التي طالت كسب السورية بأهلها المسيحيين، انتقاما من الجيش السوري وحرس حدوده بعد أن قطع طريق إمداد الإرهابيين من تركيا، مدعوما بضربات جوية روسية قاصمة ودقيقة.
وبالعودة إلى الحدث التاريخي الرئيس على الساحة الدولية والذي لم تقل أهميته عن اجتماعات ساسة أربعين بلدا في ميونيخ، يتساءل ملايين المسلمين في العالم، بعد العناق الأخوي وتعاضد أبناء الدين المسيحي، رغم الخلاف العقائدي بين قطبيه، يتساءلون قائلين: أما آن الأوان لعلماء ومشايخ وأئمة المسلمين أن يتعانقوا ويردموا الهوة بينهم ويمدوا جسور المحبة والتآخي ويزيلوا من عليها المعوقات السياسية والمواجهات التي تغذيها قوى متربصة؟
أما حان الوقت لتجتمع أمة المسلمين تحت لواء التعاليم الإسلامية السمحة وتنبذ الساسة المحرضين وتترك الخلافات السياسية والعقائدية جانبا وتتعاون في القضاء على الإرهاب في المشرق وتكف أذى المجرمين الذين يقتلون المسلمين قبل المسيحيين هناك؟
أليس "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؟
كما يتساءل الملايين في العالم بين مسيحيين ومسلمين، إلى أين يريد بعض الساسة الوصول بالأمم، هل هم يريدون حربا عالمية ثالثة، تندلع حال أي تدخل بري حذرت منه موسكو، وتأتي على الجميع، بغض النظر إن كانت قبلتهم في بيت لحم أو مكة؟
صفوان أبو حلا
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب)