هذه التصريحات تعطي انطباعا بأنها صادرة بهدف الاستفزاز أو تسجيل النقاط، ولكنها في الوقت نفسه تعكس جملة من المشاكل التي يعاني منها صاحب تلك التصريحات. هذه المشاكل لا تتعلق بالصحة النفسية والعقلية فقط للشخص، بل وأيضا من انزلاق الشخص في فخ خلط الأوراق والتورط في مآزق ومغامرات تعرضه للانتقادات الداخلية والخارجية، وتثير ضده الرأي العام المحلي والإقليمي.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورغم كل تصريحاته الحادة السابقة تجاه روسيا، أعلن أنه يريد التقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. هذا على الرغم من التصلب المثير للتساؤلات بخصوص تمسك أنقرة بتجاهل إسقاط القاذفة الروسية، وإصرارها على عدم الاعتذار عن ذلك وتحمل التبعات المترتبة عليه.
من جهة أخرى، تواصل أنقرة صب الزيت على النار واستفزاز موسكو بشكل غريب، إما لإبعاد الأنظار عن مأزق السلطات التركية والمشاكل الداخلية التي يواجهها نظام أردوغان، أو لكسب تعاطف الدول الأوروبية والرأي العام الدولي للتغطية أيضا على دور أنقرة في العديد من أزمات المنطقة، ودورها أيضا في التعامل مع التنظيمات الإرهابية.
الخارجية التركية استدعت مجددا السفير الروسي أندريه كارلوف في أنقرة بزعم خرق طائرة روسية للمجال الجوي التركي. وقامت وزارة الدفاع الروسية مجددا بنفي هذه الاتهامات التي يتعامل مع الرأي العام بدون أي جديه، ناهيك عن سخرية وسائل الإعلام.
أردوغان يعلن أنه يرغب بلقاء بوتين. وفي الوقت نفسه تستدعي خارجيته السفير الروسي لتكرار الاتهامات المثيرة للسخرية. كل ذلك مع إصرار وتصميم أنقرة على نوع من "البلطجة" السياسية والإعلامية، وربما الدبلوماسية أيضا. ومع ذلك تحاول موسكو التعامل بموضوعية وصبر مع كل تلك "الظواهر" التركية الغريبة. فموسكو، قبل الإقدام على أي خطوة تجاه أنقرة، تتوخى الحذر والموضوعية، وتتحقق جيدا عبر خبرائها أو خبراء دول أخرى. بينما أنقرة ترى أنها أصبحت تمتلك كل الحق في توجيه أي اتهامات أو الإعلان عن أي رغبات حتى وإن كانت متناقضة مع المنطق ومسار الأحداث. هذا الأمر أصبح يثير حيرة الخبراء والمحللين والعديد من وسائل الإعلام الدولية الرصينة.
لقد ظلت موسكو متمسكة بأقصى درجات ضبط النفس طوال السنوات الأخيرة إزاء التحركات التركية المثيرة للشكوك. بل والتزمت بكل الأعراف الدبلوماسية والسياسية، ولم تقع في مصيدة البروبغاندا أو إطلاق الاتهامات جزافا. ظلت ببساطة محافظة على التعامل عبر القنوات الجيدة المفتوحة بين البلدين. لكن يبدو أن اختيار الرئيس أردوغان كان عكس كل ذلك، وعكس العلاقات التي توصف بأنها كانت جيدة للغاية رغم "التعنت" التركي ومحاولات أنقرة اللعب خارج المسموح.
أوروبا لا تقبل تركيا ضمن حضارتها. ويبدو أنها لن تقبلها بتلك البساطة التي يتصورها نظام أردوغان، ورغم كل الضغوط والتهديدات التي تقوم بها أنقرة إزاء الدول الأوروبية. فلماذا كل تلك النشاطات التركية المجانية؟ من الواضح أيضا أن مماحكات أردوغان وحزبه للعودة إلى الوراء، وإعادة التاريخ إلى عصر الخلافة "العثمانية" بنكهته الأردوغانية لا يمكن أن تمر لأسباب كثيرة، منها الداخلي التركي، ومنها الإقليمي، ومنها الدولي أيضا. فلماذا تصر أنقرة الأردوغانية على خلط الأوراق الطائفية والمذهبية، والدينية عموما في المنطقة، وهو الأمر الذي يهدد أوروبا كما يهدد منطقة الشرق الأوسط ككل؟ أم أن أردوغان فقد البوصلة تماما، ما أوقعه في مآزق سياسية قد تتسبب ليس فقط في إنهاء تاريخه السياسي الشخصي، بل وأيضا القضاء على حزبه الديني الذي بدأ يتناقض برنامجه مع العقل والمنطق وحركة التاريخ، ومصالح كافة المواطنين الأتراك الذي يعيشون على الأراضي التركية؟
أشرف الصباغ
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب)