في هذا السياق، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن موسكو لن تقوم بإبرام عقود جديدة في مجال قطاع البناء مع أنقرة، وهو القطاع الذي يعمل فيه حاليا حوالي 300 شركة تركية يبلغ إجمالي قيمة عقودها نحو 50 مليار دولار.
هذا القرار لن يكون بأثر رجعي، ولن يطبق على العقود المبرمة في السابق. ما يعني أن موسكو تتعامل بعقلانية مع تلك الأزمة التي فجرتها أنقرة بشكل لا يزال يثير الكثير من التساؤلات. ومن جهة أخرى، فتوسيع العقوبات في هذا القطاع بالذات سيوفر الإمكانية للقطاع الخاص الروسي للعمل وتوسيع مساحة نشاطاته، وستظهر في روسيا في المستقبل القريب – وفقا لبوتين - حوالي 87 ألف فرصة عمل في قطاع البناء والتشييد نتيجة للقيود والتدابير التي اتخذتها الحكومة الروسية ضد أنقرة. ولا شك أن شركات الدول الصديقة لروسيا تمتلك فرصا جيدة لدخول هذا المجال في إطار توسيع موسكو مجالات تعاونها وتنويعها مع مختلف الدول.
العقوبات الروسية ضد تركيا لم تكن منذ البداية هدفا بحد ذاتها، ولا حتى ثأرا كما حاولت بعض وسائل الإعلام تصويرها. فسلاح الجو التركي قام بإسقاط القاذفة الروسية مع سبق الإصرار والترصد، ما يضع الجميع أمام العديد من علامات الاستفهام الخاصة بسياسة القيادة التركية عموما، وتوجهاتها في الأزمة السورية وعلاقة ذلك بروسيا ومواقفها ومصالحها. وبالتالي، لم تكن مفاجأة أن ترفض القيادة التركية الاعتراف، ومن ثم الاعتذار مع تحمل كافة التبعات المترتبة على ذلك.
إن موسكو لم تطالب بأي مطالب إضافية أو قاسية. كل ما هنالك أنها طلبت الاعتراف بهذه الجريمة التي لم يكن لها أي سبب في ضوء العلاقات الجيدة بين البلدين. وطلبت كذلك الاعتذار عن هذه الضربة التي لم تكن تتوقعها روسيا أبدا من دولة شريكة تربطها بها مصالح واسعة النطاق، وحجم تبادل تجاري يصل إلى 40 مليار دولار. وكان من المقرر أن يصل هذا الحجم إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2020. هذا إضافة إلى المشروعات الضخمة التي كان من المقرر تنفيذها لصالح البلدين ولصالح أوروبا بشكل عام.
لقد فرضت موسكو حظرا على استيراد أنواع عديدة من المنتجات الزراعية والغذائية من تركيا. وقامت بحظر رحلات الطيران غير المنتظمة "تشارتر"، وأوقفت بيع بطاقات الرحلات السياحية إلى تركيا. وفرضت قيودا على تأشيرات دخول المواطنين الأتراك، وعملت على تقليص استخدام اليد العاملة التركية في روسيا. هذه القيود دخلت حيز التنفيذ في مطلع العام الحالي. وبالتالي، تكون تركيا قد فقدت الكثير في المجالين الاقتصادي والسياسي، وحرمت نفسها من أوراق سياسية – اقتصادية مهمة في علاقتها مع أوروبا التي تواصل التأكيد على عدم رضاها عن سياسات القيادة التركية، وحالة الفوضى التي صنعتها أنقرة بخصوص اللاجئين بهدف ابتزاز أوروبا، ودفعها إلى دعم الخطط المتشددة للرئيس رجب طيب أردوغان.
وإذا كانت روسيا تتعامل بشفافية في الموضوع التركي كدولة كبرى لها مصالح متشابكة، فإن أوروبا تتعامل بنفاق مع القيادة التركية الحالية. ففي الوقت الذي تنتقد فيه أوروبا إجراءات أردوغان القمعية ضد المعارضة والنخب السياسية والعلمية والثقافية، لا تدفع بهذه الانتقادات في المحافل الدولية أو الأوروبية الرسمية لاتخاذ الإجراءات المناسبة. وفي الوقت الذي تدرك فيه أوروبا جيدا تداعيات سياسات أردوغان ودور حكومة داود أوغلو في تفاقم الأزمة السورية، ودعم القوى المتطرفة، ودور تركيا في إغراق أوروبا باللاجئين، إلا أنها تمارس انتهازية وسياسات قصيرة النظر بالنسبة لما تفعله أنقرة، وهو ما يضر أولا بأوروبا وبشعوبها.
إن آخر ما دفعت به النخبة السياسية الحاكمة في تركيا، يكاد يصل إلى مرتبة الجريمة وفق التشريعات الإنسانية بشكل عام، ووفق الدساتير الأوروبية على وجه الخصوص. لقد أعرب رئيس الحكومة التركية داود أوغلو عن اعتقاده "بضرورة جلوس الأكراد والعرب والتركمان والسنة والنصيرية والمسيحيين في سوريا معا حول طاولة واحدة، ومن الضروري تمثيل الأكراد، لأن عدم تمثيلهم سيمثل نقصا، إلا أننا نعارض جلوس وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي".
هذا التصريح بحد ذاته يلقي المزيد من الضوء على الفهم الطائفي والمذهبي للساسة الأتراك إزاء الأزمة السورية، ومن ثم حرصهم على دعم الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، ومحاولة تقسيم هذه التنظيمات إلى جيد وغير جيد. ومن الواضح أن القيادة التركية الحالية مصممة على المضي قدما في إشعال نار الطائفية والمذهبية، والتمييز الذي يتعارض مع كل المثل والأخلاق والشرائع. ومع ذلك فمن الصعب التعويل على أوروبا التي يعلو صراخها وصراخ مؤسساتها عندما يتعرّض من لا يروق لها لمواضيع "تجريم التمييز" وتقسيم البشر على أساس الطائفة والعرق. بينما نراها تتجاهل ما تقوم به أنقرة، وما يدلي به ساستها من تصريحات.
أشرف الصباغ