وفي التسجيل المنسوب للبغدادي ظهر واضحا استعانة "الخليفة" بفلسطين، وهي عادة درجت عليها الأنظمة الدكتاتورية العربية منذ مطلع الخمسينات للتغطية على عجزها في النهوض بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية في بلدانها.
وبدت محاولة البغدادي لرفع الروح المعنوية لمقاتليه إثر الخسائر الكبيرة التي لحقت بتنظيم "داعش" في الأشهر الأخيرة، ووصف ما يجري بأنه "ابتلاء". وبعيدا عن وعود النصر فإن البغدادي خير عمليا مقاتليه للاختيار بين إحدى الحسنيين، الشهادة أو النصر، في تراجع واضح عن خطابه السابق بأن تنظيمه يتمدد.
ومع تزعزع أركان "دولة الخلافة" تذكر البغدادي فجأة فلسطين، وهدد الإسرائيليين" بحساب عسير" وأكد أنه "لم ينس فلسطين يوما وقريبا بإذن الله تسمعون دبيب المجاهدين وتحاصركم (اليهود) طلائعهم، في يوم ترونه بعيدا ونراه قريبا"، مؤكدا أن "داعش" ستحرر فلسطين وأنها "لن تكون داركم وأرضكم، وستكون مقبرتكم، وما جمعكم الله فيها إلا ليقتلكم المسلمون".
وأغلب الظن أن شعارات البغدادي الجديدة حول تحرير فلسطين لن تجد رواجا كبيرا، فقد ألفتها الشعوب العربية حتى الملل طوال عقود طويلة، كما أن تهديد "الخليفة" بأن "العالم الذي يحاربه سوف يدفع الثمن" ترددت على مسامع المواطن العربي بعد كل هزيمة أو جريمة ارتكبتها إسرائيل منذ اغتصابها لأرض فلسطين.
من نافلة القول إن فلسطين لم تكن يوما على أجندة الجهادية السلفية. فعبدالله عزام الفلسطيني وأسامة بن لادن السعودي اتفقا في الأردن على الجهاد في أفغانستان متجاهلين النظر جهة الغرب، وإلا لشاهدا بأم العين جبال القدس ونابلس والخليل المحتلة. وطبيعي أن "داعش" الابن الشرعي للقاعدة لم ولن يخرج عن هذا النهج. فدولة "الخلافة" قامت على أرض العراق وسوريا، وقامت على حساب دماء العرب والأكراد والآشوريين والإزيديين، وشردت منهم نحو أربعة ملايين وهي أضعاف ما شرد اليهود من أبناء الشعب الفلسطيني لبناء دولتهم.
وواضح أن رفع شعار فلسطين يأتي لعدة أسباب منها؛ رفع أسهم التنظيم الذي أمعن قتلا في مناطق نفوذه، ما أفقده عمليا أي حاضنة شعبية، وزاد من الحنق والغضب عليه. وتكشف نبرة البغدادي الجديدة عن حجم الخسائر التي تعرض لها التنظيم في الأشهر الأخيرة، ففي بداية العام الحالي كان التنظيم يسيطر على نحو 40 في المئة من الأراضي العراقية، لكنها تقلصت حسب خبراء إلى نحو 15 في المئة فقط، ومع اشتداد الحملات الدولية على "داعش" تتقلص مناطق نفوذه كثيرا وتنحصر في محافظة الأنبار والموصل. ومع الغارات على سوريا فإن التنظيم يتراجع في شكل لافت في ريف حلب، وميدانيا خسر التنظيم عددا من المدن والمراكز المهمة في مقدمها تل أبيض. ومع خسارة كثير من خطوط الامداد الواصلة بين الرقة والموصل باتت "دولة الخلافة" عرضة لفقدان التواصل الجغرافي الذي ميزها عندما كسرت الحدود، وأصبحت تتحرك بحرية بين العراق وسوريا. ومع التشديد الدولي على تركيا، وخسارة معبر تل أبيض يفقد التنظيم عمقا طالما زوده بالعتاد والأموال اللازمة لحركته. ومن علامات انحسار مشروع "داعش" التركيز على ليبيا بديلا عن "دولته" في العراق والشام.
من غير المعروف لماذا لم يظهر الخليفة وفضل تسريب تسجيل صوتي فقط رغم غياب وصل إلى نحو سبعة أشهر عن "الرعية". ولماذا لم يظهر بالصوت والصورة لينهي إشاعات حول إصابة بالغة لحقت به جراء غارة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وفي المقابل واضح أن التسجيل يهدف أساسا لرفع الروح المعنوية لمقاتليه وهو ما يثبته إضافة إلى النبرة وتغير اللهجة عدم ترجمة التسجيل إلى لغات أخرى كما في المرات السابقة. وفي التسجيل يقر البغدادي بخسائر "داعش" بقوله إن "الدولة الإسلامية انحسرت عن كثير من المناطق التي فتحتها وسيطرت عليها". لكن البغدادي يحاول تقليل حجم الخسائر لأنها "وضع طبيعي" نظرا لحجم الهجمة ولأنه "إن صمدنا في وجه العالم وقارعنا جيوشه جميعا بقدراتنا وانتصرنا فلا عجب، فهو وعد الله لنا، وإن أصابنا القتل وكثرت بنا الجراح وأصابتنا النوائب وعظمت المصائب فلا عجب أيضا، فإن الابتلاء قدر محتوم".
ويكشف تسجيل البغدادي الأخير عن افلاس "داعش" وخسارته، ولا يمكن تغطيته بإشارة "الخليفة" لأنصاره إلى أنه "لا زالت دولتكم الإسلامية بخير". فواضح أن أوضاع "دولة الخلافة" من سيء إلى أسوأ وأنها لن تصمد طويلا، فهجمات "داعش" الإرهابية في سيناء وباريس وغيرها عجلت في تشكيل أكثر من تحالف لمحاربته، وأغلب الظن أن العام المقبل سوف يشهد تطورات درامية لا تصب في مصلحة "دولة البغدادي"، وربما تنهي هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمعات العربية، لكن إنهاء أسباب التطرف رهن ببناء دول عصرية تهتم بمواطنيها وتنهي أسباب الظلم وعدم المساواة، وتحقق التنمية المستدامة، وتنطلق من أن إسرائيل خطر وجودي على العرب، وليست فزاعة للشعوب، و"شماعة" للأخطاء، وملفا في الأدراج يطرح أو يخفى حسب الحاجة للاستخدام.
سامر الياس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)