وإلى ذلك، تأتي زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى إيران في إطار قمة البلدان المصدرة للغاز امتدادا للتعاون الاقتصادي والتقني والفضائي والعسكري بين البلدين، فيما تبقى حلبة التعاون العملياتي والتنسيق في محاربة الإرهاب على الأرض السورية الساحة الرئيسية في العمل المشترك وترسيخ حضور موسكو وطهران في الإقليم والعالم.
ففيما يتعمق التعاون بين البلدين، يستغلان عقوبات يعتقد الغرب أنها ستثقل كاهلهما، ويعملان على توطيد الاقتصادين وتنويع مصادرهما بما يشمل العلوم والطاقة والفضاء والدفاع.
وتزامنا مع النجاح الاقتصادي المستمر ضمن العلاقات بين موسكو وطهران، وبالتوازي مع الانتصارات التي تحرزانها على الإرهاب في سوريا، يستمر أصحاب الخيال السياسي في واشنطن وبروكسل وأنقرة وبعض بلدان الخليج في نسج الـ"النظريات والفرضيات" التي "تحتم" وقوع الفرقة لا محالة بين روسيا وإيران نظرا "للخلاف على مصير الأسد"، وغيرة الأخيرة من استحواذ موسكو على زمام الأمر والنهي في سوريا.
خيالهم السياسي يرى أن طهران متمسكة ببقاء الرئيس السوري، فيما صارت روسيا "محرجة" لما عاد عليها تأييده من "حرج وتذمر داخلي روسي، وخصام مع الغرب"، وما تمخض عنه من "تداعيات على الاقتصاد الروسي".
أما الواقع، فيشير في هذه الأثناء إلى استمرار روسيا في تعزيز اقتصادها والخروج به من أزمة الاقتصاد العالمية التي يغرق فيها الغرب حتى الأذنين غير آبهة بأي تهويل.
فهي وبعد المواجهات الحاصلة بينها والغرب في الآونة الأخيرة، استدركت ضرورة الكف عن التصديق "بنزاهته" وتعهداته وأعادت توجيه بوصلتها إلى أصدقاء موثوقين في مقدمتهم الصين وإيران.
وها هي تبرم مع إيران الاتفاقات والعقود بالمليارات وبعملة البلدين، وبشكل خاص في قطاع الطاقة واستخراج النفط والغاز لتنهي بذلك فرحة الغرب المندرجة أيضا في نطاق "الخيال السياسي" والقائمة على فرضية أن عودة إيران إلى سوق النفط بعد رفع العقوبات عنها ستغرق السوق وتنزل الأسعار إلى الحضيض بما سيمثل "القشة التي ستقصم ظهر بعير موسكو".
أصحاب الخيال السياسي هذا أغفلوا أمرا غاية في الأهمية يضرب فرضيتهم في الصميم، وهو اتفاق موسكو وطهران في ضوء صفقة برنامج إيران النووي على التنسيق في سوق النفط والغاز، واستجرار روسيا فائض النفط الإيراني وضخه إلى خزاناتها لاحتكاره، لقاء توريد البضائع والمعادن والسيارات والطائرات والأسلحة وغير ذلك من المصنوعات الروسية إلى إيران دون المرور بالدولار.
فالتبادل التجاري بين إيران وروسيا بهذه الصيغة يقطع الطريق على المتربصين، ويعمق خيبتهم، إذ أنهم كما خسروا الميدان في سوريا، يضيعون السوق والمواقع التجارية ويتكبدون تبعات "عقوباتهم" على البلدين التي أدت إلى تطور مذهل حققته إيران على مختلف الأصعدة، وحملت موسكو على النظر بواقعية إلى ضرورة تطوير الاقتصاد الوطني والتحفظ على اقتصاد السوق الذي لم يعد كذلك، بل تحول إلى اقتصاد الأزمات والعقوبات والتحالفات وعرقلة وصول الشركات الروسية إلى الأسواق الغربية.
بوتين لم يقصد طهران "للتفاوض على مصير الأسد"، بل جاء إليها وبجعبته كومة من الاتفاقات والعقود في شتى الميادين وفي مقدمتها العسكرية والطاقة. وكما اعتدنا من روسيا طوال عقد ونصف من الزمن، ها هي تجني ثمار الحروب التي تخوضها واشنطن وتستنزف فيها أموال دافعي الضرائب الأمريكيين ومال الكثير من بلدان الخليج العربية وأوروبا والحلفاء في إطار الناتو.
ونتائج "نشاط" واشنطن في المنطقة، وآخره في سوريا تتحول إلى انتصارات يحققها الجيش السوري على الإرهاب، وتنقلب إلى وجود روسي وإيراني معزز في سوريا والمنطقة. خسارات متتالية تسعى واشنطن لإعادة ترميمها وتعليبها عبر الإعلام وتقديمها على أنها تكتيكات تجر من خلالها روسيا وإيران لإغراقهما في وحل المنطقة، فيما يتحدث الواقع عن غير ذلك.
ومنه، فكيف لواشنطن أن تكون رابحة في هذه الحروب بعد الانكفاء الواضح على الأرض وتصدع تحالفها الدولي ضد الإرهاب، والأهم بعد خلع فرنسا قبعة الكاوبوي والتحاقها بعملية روسيا الجوية في سوريا، وتحضير لندن على قدم وساق لتنخرط هي الأخرى في هذه العملية؟
وكيف للغرب أن ينتصر بعد أن صارت مدنه مسرحا لعمليات "داعش"، الذي يفر عناصره أفواجا عائدين من "عاصمة" دولتهم الرقة و"أرجائها" بين سوريا والعراق إلى عواصم بلجيكا وفرنسا وألمانيا المثقلة أصلا ببطالة الشباب والمشاكل الاجتماعية قبل مشكلة اللاجئين؟
وكيف لبعض بلدان الخليج التي تحالفت مع واشنطن ومولت مخططها "لإعادة" صياغة المنطقة وإخراج إيران منها وتقطيع أوصال النظام السوري أن تبرر خيبتها بحليفها وقبطان سفينتها الأمريكي الذي أبحر بالحلفاء إلى الهزيمة؟
الإجابة عن هذا التساؤلات وغيرها، ربما تكمن في الحراك الملحوظ لترميم العلاقات وإعادة تنسيق المواقف بين العواصم الخليجية الفاعلة وموسكو، إذ تترقب روسيا زيارة العاهل السعودي، بعد أن استقبلت مؤخرا وعلى أرفع المستويات أمير الكويت، فيما لا يزال مبدعو الخيال السياسي يجزمون بأن كيل الخليج قد فاض، وأن العلاقات مع موسكو لن تتحسن وأمريكا ستنتفض ولو بعد حين، إذ هي ترسل خمسين مستشارا إلى سوريا لرفد المعارضة ومؤازرتها في وجه "داعش" و"النظام".
ويبقى، السؤال إلى متى ستستمر واشنطن في ذر الرماد في العيون، ويآثر اتباعها رفض التصديق بأن الغمامة التي على أعينهم ليست إلا رمادا يعمي؟ ومتى سينزلون من على الشجرة ويلتحقون ولو بالعربة الأخيرة من قطار موسكو الذي صارت سكته تمتد من دمشق إلى طهران وبكين مرورا بعواصم آسيا الوسطى، ومتى سيدركون أن عربة الغرب تعطلت وغرقت في وحل الإرهاب العائد ومشاكل اللاجئين والاقتصاد، وتبعات الحروب الخاسرة بالتزكية؟
صفوان أبو حلا