يتذكر العالم كله احتلال الإيرانيين للسفارة الأمريكية في طهران عام 1979 واحتجاز موظفيها، بينما يتذكر القليلون هجوم الجماهير على البعثة الدبلوماسية الروسية في طهران عام 1829، وتمثيلهم بالدبلوماسي والكاتب الروسي الشهير ألكسندر غريبوييدوف وقتلهم إياه لاتهامه بالتهتك الأخلاقي.
وقد اضطر هذا الحادث الشاه الفارسي إلى أن يرسل مع ابنه إلى القيصر الروسي نيقولاي الأول فدية عن قتل السفير الروسي حجرا كريما خرافيا من الألماس حجمه 90 قيراطا، ووزنه 18 غراما، وطوله 3 سنتمترات، ولا يزال محفوظا في متحف الكرملين.
وعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين شهدت تحسنا بعد انتصار ثورة البلشفيين في عام 1917، والذين وقفوا ضد سياسة "القياصرة الطغاة" الاستعمارية، وأعادوا إلى إيران الأراضي التي اقتطعتها منها الإمبراطورية الروسية، فإن إيران بقيت بعد ذلك ميدانا للتنافس بين السوفيات والأتراك والبريطانيين، والأمريكيين فيما بعد.
وقد تميّزت العلاقات ببعض الدفء بعد انتصار الثورة الإيرانية في 11 شباط/فبراير من عام 1979، واستقبل الإمام الخميني السفير السوفياتي في طهران فلاديمير فينوغرادوف أكثر من مرة. لكن العلاقات السوفياتية-الإيرانية ساءت بشكل ملحوظ، بسبب الاجتياح السوفياتي لأفغانستان، وكذلك بعد تقديم المساعدات العسكرية والتقنية والاستخبارية السوفياتية لنظام صدام حسين خلال الحرب العراقية-الإيرانية. وبدأ عندئذ الحديث في طهران عن "الشيطان الأكبر" أمريكا و"الشيطان الأصغر" الاتحاد السوفياتي.
وبعد زوال الحاجز الإيديولوجي بين البلدين بانهيار النظام الشيوعي في عام 1991، ولمواجهة الضغوط الأمريكية المتنامية على طهران، بدأ الجانب الإيراني بجس نبض الجانب الروسي حول تطوير التعاون بين البلدين. وشهد عام 1992 بداية التعاون الروسي ــ الإيراني في مجال الطاقة النووية، عندما وقّع البلدان اتفاقية بشأن التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
وفي عام 1994، وقعت طهران مع موسكو عقداً بقيمة 800 مليون دولار لبناء مفاعل بوشهر النووي لتوليد الطاقة الكهربائية بعدما تنصّلت شركة "سيمينس" الألمانية من إكماله بضغط من الولايات المتحدة. وفي شهر آذار/مارس من عام 2000، زار الرئيس الإيراني محمد خاتمي موسكو وأجرى مباحثات مع الرئيس الروسي الجديد فلاديمير بوتين وكبار المسؤولين العسكريين الروس، وتم اثناءها توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون بين البلدين.
وفي شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2000، قام وزير الدفاع الروسي إيغور سيرغييف بزيارة رسمية إلى طهران، وأجرى مباحثات مع كبار المسؤولين الحكوميين الإيرانيين حول تنمية التعاون العسكري بين موسكو وطهران، وناقش مع خاتمي قضايا الأمن والتعاون الاقتصادي في منطقة الخليج العربي وآسيا الوسطى والقوقاز. وعُدَّ ذلك تأكيداً لإعلان موسكو انسحابها من الاتفاق، الذي وُقع في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين بين نائب الرئيس الأمريكي آل غور ورئيس الحكومة الروسية فيكتور تشيرنوميردين في عام 1995، حول حظر التعاون العسكري والتقني مع إيران.
وقد حاولت الولايات المتحدة، وبتحريض إسرائيلي مباشر، التخريب على الطموحات الإيرانية بامتلاك التكنولوجيا النووية السلمية، وحاولت الضغط بشتى الوسائل على موسكو لإيقاف تعاونها مع طهران. وقال نائب وزير الخارجية الأمريكية جون بولتون إن مفاعل بوشهر سيكون قادراً على إنتاج مواد انشطارية تكفي لصنع ثلاثين قنبلة نووية سنوياً. لكن عهد يلتسين كان قد ولّى، وشدد بوتين خلال زيارته لواشنطن في 24 أيار/مايو من عام 2002 على "أن روسيا تقدم الدعم التقني لإيران في المجالات السلمية فقط". وألمح بسخرية إلى تعاون الولايات المتحدة العسكري مع تايوان، وقال "إن روسيا قلقة أيضاً من تطوير تايوان لصواريخها بعيدة المدى".
بيد أن التحوّل الحاسم في العلاقات الروسية-الإيرانية حل في بداية ولاية بوتين الرئاسية الثانية عام 2005، عندما اتخذت السياسة الروسية الخارجية نحو الشرق الأوسط معالم استقلالية واضحة بزيارة بوتين إلى إسرائيل وفلسطين.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2005 وقعت إيران وروسيا، وللمرة الأولى، عقد تسليح ضخماً، بقيمة مليار و400 مليون دولار، تلقت طهران بموجبه 29 منظومة صواريخ فعالة للدفاع الجوي من طراز "تور إم ــ1"، وقامت موسكو بموجبه أيضاً بتحديث الطائرات الإيرانية العسكرية من طراز "سوخوي ــ24" و"ميغ ــ29". وقامت روسيا بصنع وإطلاق أول قمر اصطناعي إيراني إلى الفضاء.
وعلى الرغم من تأكيدات روسيا أنها لم تخالف نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، فإن ذلك لم يمنع الكونغرس الأمريكي من فرض عقوبات على مؤسسات إنتاج وبيع الأسلحة والتقنية العسكرية الروسية من حين لآخر.
هذا، وتعدّ إيران، جارة روسيا على بحر قزوين، مجالاً حيوياً لمصالح موسكو من الناحية الجيوسياسية، حيث إنها تقع في وسط "قوس الأزمات" الشهير، وتضمن العلاقات المتينة مع طهران لروسيا الحماية من "المصائب" المعاصرة، وتساعدها إلى درجة ما في التحصن ضد وصول "الإرهاب" إليها والمخدرات وغيرها من الأخطار الآتية من الجنوب.
وإيران هي أقصر طريق لروسيا للوصول إلى البحار الدافئة، التي سعى لها الروس منذ غابر الأزمان. ويحتل التعاون في حقل الغاز والنفط حيّزاً مهماً من العلاقات الروسية ــ الإيرانية. فقد قامت شركة "غاز بروم" الروسية في عام 2006 في إطار كونسورتيوم دولي بتطوير المرحلتين الثانية والثالثة في حقل "بارس" الجنوبي الإيراني، وبلغ حجم استثمارات "غاز بروم" في هذا الحقل نحو 750 مليون دولار.
وعلى أي حال، يبقى الجانب السياسي - الأهم في العلاقات بين البلدين، حيث يعود التعاون الثنائي بالنفع على روسيا، التي تؤكد بذلك استقلالية قرارها وعودتها لاعبا دوليا في الشرق الأوسط، وعلى طهران، التي تستخدم موسكو غطاء دبلوماسياً في تحركاتها على الصعيد الدولي.
حبيب فوعاني