وكشف تعامل طهران وأنقرة مع ثورات "الربيع العربي" رغبة كل طرف منهما في استثمار النتائج وتجييرها لمصلحة توسيع الدور الإقليمي أو البحث عن حلفاء جدد في ظل التغييرات الدرامية السريعة.
وبدا تناقض نظرتي البلدين للأحداث واضحا في موقفيهما مما حدث ويحدث في سوريا منذ مارس/ آذار 2001.
محددات الدور التركي
أحدث وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم في 2002، انقلابا في السياسية التركية، وبدء من رفض استخدام القواعد الأمريكية جنوب شرق البلاد لضرب العراق، ومعارضة الحصار على إيران، ولعب دور في المفاوضات النووية ظهر خروج تركيا الحقيقي عن دائرة السياسة الأورو- أطلسية.
وفي العقد الماضي كثفت تركيا من نشاطها في العالم العربي بشكل ملموس من خلال خطوات عدة، أهمها سياسة الجوار التي تقوم على التجارة والاستثمارات وتسهيل الحصول على تأشيرات الدخول لمواطني الدول العربية الشريكة، وتعّد بديلاً لطموحات أنقرة في الانضمام إلى "الاتحاد الأوروبي".
وازداد التأثير التركي بعد الانفتاح الاقتصادي الكبير على بلدان المنطقة، ما أدى إلى رفع حجم التبادل التجاري بين تركيا والعرب من 7 مليارات دولار عام 2002 إلى قرابة 40 مليار دولار عام 2008.
ولكن تعامل تركيا مع التغيرات العاصفة في بداية 2011، كان متناقضا أو مرتبكا على أقل تقدير.
وتتحدد صعوبة الموقف التركي بالاختيار بين سعيها إلى المحافظة على أجواء الاستقرار في المنطقة حتى لا تتأثر العلاقات التي بنتها والمصالح الاقتصادية مع البلدان العربية، والنظر إلى تركيا كنموذج للدولة الإسلامية المتطورة ما وضعها أمام تحدي الاختيار بين الشعوب وحكامهم.
وربما كانت الصعوبة بسبب رغبة تركيا في تصدير نموذجها الإسلامي في الحكم وصوغ علاقات استراتيجية مع البلدان، التي يحصل فيها التغيير، وقيادة معسكر الاعتدال السياسي "السني" في المنطقة.
براغماتية أمام امتحان سوري صعب
وتباينت مواقف تركيا فيما يخص الثورات في تونس، ومصر، وليبيا، والبحرين، واليمن.
وفي الشأن السوري تبنت تركيا مدخلاً مزدوجاً في التعامل مع تطورات الأوضاع، يجمع في بداية الأمر بين حماية النظام الصديق لتركيا ودعمه من جهة، والتعاطف مع الثوار والتأييد الضمني لهم ولمطالبهم من جهة أخرى، مع تنشيط دور المجتمع المدني التركي في استضافة أنشطتهم على الأراضي التركية، لكنه تطور بعد ذلك إلى مطالبة الرئيس بشار الأسد بالرحيل في منتصف العام 2011.
وعمليا، انتهى شهر العسل الطويل بين القيادتين السورية والتركية بعد أشهر من اندلاع أحداث درعا. وتلكأت تركيا بداية في تحديد موقف واضح من الأحداث في سوريا نظرا لحجم العلاقات الاقتصادية والتجارية الكبير بين البلدين، ورغبة الطرفين في بناء علاقات استراتيجية تكون فيها دمشق بوابة تركيا إلى العالم العربي، وتتشكل فيها منطقة تجارة حرة تضم العراق وإيران إضافة إلى البلدين.
وتدرجت مواقف أنقرة من تقديم النصائح، وإيفاد أحمد داوود أوغلو، صاحب نظرية "تصفير المشاكل"، لتتطور إلى قطع العلاقات الرسمية، ودعم العناصر المنشقة عن الجيش الحر بالسلاح والمكان لإقامتهم في جنوب تركيا.
لكن أنقرة تجنبت التصعيد مباشرة والتدخل العسكري لإدراكها قوة العلاقات بين دمشق من جهة ولإيران، وروسيا، والقيادة في العراق، وأن أي تدخل قد يؤدي إلى قطع العلاقات معهم أو توتير الأجواء ونسف سياسة حل المشكلات مع كل دور الجوار.
وبالتركيز على المواقف التركية في سوريا، يجب عدم إهمال عدد من القضايا، لعل أهمها أن طول الحدود المشتركة بين البلدين والذي يتجاوز 900 كيلومترا يفرض على القيادة التركية التعامل في شكل مغاير لطريقة التعامل مع الأحداث في بلدان أخرى.
وتمس الأزمة السورية الداخل التركي مباشرة، فعلى طول الحدود الجنوبية هناك 19 مقاطعة ذات أغلبية كردية يقابلها ثلاثة تجمعات أساسية للأكراد في سوريا، وفي حال الفلتان الأمني فإن تركيا تخشى من استئناف حزب العمال الكردستاني نشاطاته بقوة بعدما وضعت اتفاقية أضنة 1998 حدا لمعادلة الدعم السوري للعمال الكردستاني، مقابل الدعم التركي للإخوان المسلمين، وهي ما نظمت العلاقة بين البلدين لفترة طويلة قبل الاتفاقية، وانفتاح الرئيس رجب طيب أردوغان على نظيره السوري بشار الأسد.
كما اضطرت أنقرة إلى التعامل مع قضية اللاجئين، الذين تزايد عددهم تدريجيا ووصل حاليا إلى أكثر من مليوني لاجئ سوري تتكفل الحكومة بنفقات إقامة أكثر من نصفهم في المخيمات، إضافة إلى المخاوف الأمنية، وعدم تجانس اللاجئين مع الأوساط المحلية في أكثر من منطقة.
ومع تطور الأحداث بدا واضحا أن موقف تركيا انتقل إلى دعم أي عمل من شأنه الإطاحة بالأسد، ورعاية الجهات المعارضة من أجل الفوز بعلاقات مميزة مع أي نظام جديد للاستفادة من موقع سوريا الاستراتيجي.
المحددات الإيرانية للتعامل مع الشرق الأوسط
عززت الثورة الإسلامية عام 1979 من دور إيران في المنطقة، واستفادت من الأوضاع العربية لتوسع نفوذها عن طريق دعم جماعات "شيعية" في العراق ولبنان والبحرين، وتوظيف خطاب العداء للولايات المتحدة الأمريكية لجذب يساريين وقوميين إضافة إلى حركات إسلامية سنية، رأت في مثال الثورة الإيرانية طريقا لإزالة الأنظمة الدكتاتورية والوراثية، واستغلت إيران الأوضاع للمضي في طريق "تصدير الثورة" وهو ما أثار هلع بعض الأنظمة في المنطقة.
وفي بداية ثورات "الربيع العربي"، كانت إيران متحمسة جدا للتغييرات خاصة أن التغيير بدأ في أنظمة تدور في الفلك الأمريكي، ما يعطي مؤشرا إلى فشل السياسات الأمريكية في كبح إيران وتحجيم تحالفاتها الإقليمية.
واعتبر كثير من النخب الإيرانية أن ما تشهده المنطقة هو "صحوة إسلامية" تتمم الثورة الإيرانية وتفتح على بناء "شرق أوسط إسلامي" في إطار الرد على المشروعات الأمريكية" شرق أوسط جديد" أو "الشرق الأوسط الكبير"، التي طرحت عقب احتلال العراق.
وكانت النخب الإيرانية مقتنعة أن التغيرات تصب في مصلحة إيران، لكن الأوضاع تغيرت كثيرا عقب اندلاع الاحتجاجات في سوريا، ووقوف طهران بقوة إلى جانب نظام الرئيس الأسد، وتبني وجهة النظر الرسمية في أن ما يجري لا يعدو كونه مؤامرة على المقاومة ومحور الممانعة، ودور سوريا.
ولا يثير هذا الموقف استغرابا، فإيران استطاعت بناء علاقة استراتيجية مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، وحافظ عليها وريثه في الحكم بشار، وتوثقت العلاقات ضمن محور ضم حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين.
ومن الطبيعي أن تتشدد حتى لا تخسر استثمارات سياسية واقتصادية وظّفتها في سوريا طوال ثلاثة عقود، وقفت خلالها سوريا مساندة لإيران في الحرب مع العراق، وضد محاولات عزل طهران دوليا.
ومنذ الأشهر الأولى أعلنت إيران إرسال مستشارين عسكريين لدعم عمليات الجيش السوري في مواجهة الاحتجاجات، التي تحولت لاحقا إلى صراع مسلح.
وتتحدث المعارضة السورية عن مشاركة فعلية من الإيرانيين، وعناصر من حزب الله اللبناني في قمع الاحتجاجات في مرحلة مبكرة ربيع عام 2011. وبات أمر مشاركة إيران عسكريا وحلفائها من لبنان والعراق وأفغانستان واضحا منذ عام 2012 لمنع سقوط النظام السوري الحالي.
وتشعر إيران بمزيد من القوة بعد توقيع الاتفاق النووي، الذي يزيد قوتها الاقتصادية، والسياسية ويفك عزلتها العالمية، وتطمح إلى بسط هيمنتها على الإقليم على أساس أنها القوى الإقليمية الأولى بما تملكه من موارد وأوراق كثيرة وتحالفات.
وأعاد الاتفاق النووي الروح للفريق المحافظ، الذي تباهى خريف العام الماضي بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية، ويشد من عضد المؤيدين للدفاع عن النظام السوري حتى آخر رمق على اعتبار أن "سوريا هي المحافظة الخامسة والثلاثون، وتعدّ محافظة استراتيجية بالنسبة لنا، وإذا حاربنا الأعداء لاحتلال سوريا أو خوزستان (الأحواز) فالأولى بنا أن نحتفظ بسوريا" حسب رجل الدين الإيراني مهدي طائب المقرب من المرشد الأعلى للثورة ورئيس مركز "عمّار الاستراتيجي".
الخلاف حول سوريا والعلاقات التركية الإيرانية
أغلب الظن أن يشارك وزيرا الخارجية التركي والإيراني في اجتماعات فيينا الثانية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، وواضح أن الطرفين يقفا على النقيض.
فتركيا تسعى بشتى السبل إلى إزاحة الرئيس الأسد ضمن فترة انتقالية محددة زمانا وتفضل ألا تطول أكثر من 6 أشهر، وتتمسك بموقفها في محاربة "داعش" والنظام" في شكل متواز. وتحاول تركيا إقناع مختلف اللاعبين المشاركين في لقاء فيينا بضرورة إنشاء منطقة عازلة، وإطلاق يدها في محاربة حزب العمال الكردستاني على قدر المساواة مع "داعش"، كشرط لمشاركتها في أي تحالف دولي لمحاربة الإرهاب في سوريا.
وفي المقابل، فإن إيران ستبدي تشددا حول مصير الرئيس الأسد ودوره في المرحلة الانتقالية، ومستقبل سوريا، وضرورة التركيز على محاربة "داعش"، وتشكيل حكومة من النظام والمعارضة.
فطهران ترى في انهيار النظام السوري انكسارا "لضلع" مهم في معسكر الممانعة، وبداية لانحسار دورها في المنطقة مع فقدان حلقة التسليح لحزب الله، وتراجع تأثيرها في معادلة الصراع مع إسرائيل وهو ما أكسبها تعاطفا كبيرا شمل حتى فئات واسعة من اليساريين والقوميين العرب.
وعلى الأرجح فإن براغماتية الإيرانيين والأتراك سوف تتغلب باتجاه عدم الانجرار إلى صدام مباشر، أو قطيعة اقتصادية، فهناك مصالح مشتركة كبيرة، ومخاطر تهدد الطرفين.
ولكن الأهم ربما هو أن الدورين التركي والإيراني باتا محدودين مع تدخل القوى العظمى مثل روسيا والولايات المتحدة وانغماسهما المباشر في الأزمة السورية، ما يعني تراجع دور اللاعبين الإقليميين إلى دور مساعد لا أكثر في رقعة الشطرنج الكبرى.
سامر إلياس
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)