تحركت من بغداد الخميس 21 يونيو/ حزيران من العام 921 قافلة وفد رسمي أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله العباسي، قاصدة مملكة البلغار في أراضي جمهورية تتارستان الروسية الحالية.
أرسل الخليفة العباسي "908 - 932" هذه البعثة استجابة لوفد من طرف ملك البلغار "ألموش بن يلطوار" وصل بغداد ملتمسا إرسال سفارة إلى مملكته لشرح مبادئ الإسلام، وأموال لبناء مسجد وقلعة حصينة يحتمي بها من أعدائه الخزر.
انطلقت قافلة البعثة التي ترأسها سوسن الرسي وشارك فيها تكين التركي وبارس الصقلابي وقام فيها أحمد بن فضلان بدور الكاتب من العراق إلى آسيا الوسطى عبر إيران ووصلت إلى بلاد البلغار أو الصقالبة على نهر الفولغا يوم الأحد 12 مايو 922، بعد رحلة شاقة استغرقت 11 شهرا.
لا يعرف الكثير عن ابن فضلان الذي يؤكد بعض الباحثين أن اسمه كما في نص المخطوطة محمد وليس أحمد. ويمكن الإشارة إلى أنه عمل لفترة طويلة مساعدا للقائد العباسي محمد بن سليمان الذي قاد نهاية القرن التاسع وبداية القرن العاشر حملات عسكرية امتدت من مصر إلى الصين.
واكتسب ابن فضلان خلال تلك الفترة خبرة كبيرة بالشعوب والأمم التي تعرف عليها، ما أهله للوصول إلى بلاط الخليفة المقتدر بالله العباسي، ومن ثم إلى عضوية البعثة التي خلدته.
ترك ابن فضلان "رسالة" صغيرة حول أحداث الرحلة، كتبها عام 924 وضمنها مشاهداته وانطباعاته، بالإضافة إلى أنه سجّل فيها الأقوام التي تعرف عليها، وترك وصفا هاما لمعتقداتهم وتقاليدهم وعاداتهم وظروف معيشتهم، لذلك تعد رسالته وثيقة هامة في علمي الاجتماع والأساطير لسكان منطقة واسعة تمتد من إيران إلى جنوب روسيا.
ابن فضلان وصف بشكل خاص شدة البرد في مناطق جورجيا الحالية قائلا "باب من الزمهرير قد فتح علينا، ولا يسقط الثلج إلا ومعه ريح عاصف شديدة"، مشيرا إلى أن شتاء خوارزم صيف مقارنة بها.
ورصد الرحالة العربي في هذه المغامرة بلاد الترك والقسم الغربي من كازاخستان والصقالبة والخزر والروس الذين قال في وصفهم: "ورأيت الروسية وقد وافوا بتجاراتهم، فنزلوا على نهر إتل، فلم أر أتم أبدانا منهم، كأنهم النخل شقر حمر، ومع كل رجل منهم فأس وسكين وسيف لا يفارقوه أبدا".
يعود الفضل لياقوت الحموي (1178- 1228) في تعريف المستشرفين والباحثين برحلة ابن فضلان من خلال الفقرات والمقاطع التي أوردها في كتابه الشهير معجم البلدان، ما شد انتباههم ودفعهم للبحث والتنقيب عن مخطوطته الأصلية.
أتت جهود المستشرقين والباحثين أكلها وعُثر في عام 1817 على قسم من مخطوطة ابن فضلان في روسيا، نشرته أكاديمية سان بطرسبورغ باللغة الألمانية عام 1923.
وفي العام التالي عثر مهاجر روسي من جمهورية بشكيريا، متخصص في الدراسات التركية والفلسفة يدعى أحمد زاكي أحمد شاهوفيتش واليدوف على أهم نسخة لرسالة ابن فضلان في المكتبة الملحقة بضريح الإمام علي بن موسى الرضا بمدينة مشهد الإيرانية.
التطور الأبرز بالنسبة للمستشرقين والدارسين حصل عام 1937 حين أهدت الحكومة الإيرانية الاتحاد السوفييتي نسخة من مخطوطة مشهد.
هذه لمخطوطة النفيسة ترجمت وحققت في عام 1939 تحت إشراف وتعليق الأكاديمي الروسي الشهير إغناتي يوليانوفيتش كراتشكوفسكي.
يحاول بعض الباحثين التأكيد على أن رحلة ابن فضلان وبعثته لم تكتف بالوصول إلى نهر الفولغا، بل ذهبت أبعد من ذلك ووصلت إلى مشارف القطب الشمالي في المنطقة الاسكندنافية. ويبدو أن ذلك جاء بتأثير القصص الخيالية التي أضافها البعض إلى هذه الرحلة الفريدة.
ويعد الروائي والسينمائي الأمريكي ميخائيل كريكتون من أهم من أضاف على مخطوطة ابن فضلان مدعيا الاعتماد على مصادر خاصة غامضة. كريكتون كتب رواية خيالية عام 1976 بعنوان "أكلة الأموات" زاعما أنها تحوي النص الكامل لرسالة ابن فضلان.
الرواية الأمريكية نقلت أحداث رحلة ابن فضلان من ضفاف نهر الفولغا وجعلت من منطقة الدول الاسكندنافية وتحديدا السويد مسرحا لها.
وفي عام 1999 أُنتج شريط سينمائي حمل اسم "المحارب الثالث عشر"من وحي رواية "أكلة الأموات" لقي شهرة واسعة وإقبالا كبيرا.
لن يتوقف بطبيعة الحال تاريخ هذه المخطوطة الفريدة ولا الجدال حولها. وستظل شاهدا وحيدا رصد عالما غامضا لأول مرة قبل 1093 عاما. رصد بعين ثاقبة عوالم زالت وتقاليد اندثرت ومشاهد ما كان لها أن تصل إلينا لولا ابن فضلان.
ولعل ألغاز هذه الرحلة تجد في المستقبل من يميط اللثام عنها. ولن يتأتى ذلك بالطبع إلا بالعثور على نص كامل للمخطوطة متضمنا رحلة الإياب.
محمد الطاهر