فمع احتفال بوتين ومحبيه في روسيا والعالم بهذه المناسبة، يعيد المراقبون والعارفون الى الأذهان السنوات الـ15 الماضية التي تدرج خلالها بوتين في مناصبه إلى أن وصل الى سدة الحكم وإلى قيادة أكبر بلد في العالم، بلد عملاق له ثقله الجيوسياسي والدبلوماسي الاقتصادي.
وفي عهد بوتين عاشت روسيا حتى الآن أزمات وتحولات بدأت بحسم الحرب الثانية في الشيشان والقضاء التام على النزعات الانفصالية ومحاولات النيل من روسيا في كيانها ووحدة أراضيها في عقر دارها.
وأعقب النصر على الإرهاب في الشيشان وتوطيد أركان الفيدرالية الروسية مرحلة، إنعاش الاقتصاد المتردي المثقل بالديون الطائلة في تركة ثقيلة لإصلاحات أول وآخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، وما جلبته الإصلاحات اللبرالية التي طبقها فريق الرئيس الأول لروسيا في مرحلة ما بعد الاتحاد بوريس يلتسين وتمخض عنها فقر شامل وفساد استشرى في مفاصل الدولة ونخرها.
فمع تسلم بوتين، الرئيس الجديد المفعم بالحيوية والنشاط والمستند إلى فكره الوطني المتمسك بوحدة شعوب روسيا الأزلية وبضرورة نهضتها، شرع في معالجة الاقتصاد وبدأت روسيا بقيادته تتحرر من نير الديون ومهانة الخزينة الخاوية، ولم يكد بوتين ينهي ولايته الرئاسية الأولى حتى تمكنت روسيا من سداد ما عليها من مئات مليارات الدولارات قبل موعدها، وأخذت الصناعات تنتعش من خلال إعادة إطلاق المجمع الصناعي الحربي الذي شكل قاطرة أولى في جر الاقتصاد المتوعك. وعلاوة على إعادة إطلاق التصنيع استغلت إدارة بوتين عائدات النفط والغاز والحبوب والمعادن والأخشاب التي تصدرها روسيا وسخرتها بالدرجة الأولى في خدمة البرامج الاجتماعية والإصلاحات وتقوية الجيش والاسطول الروسيين.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، فقد استطاعت روسيا استعادة سابق مجدها وهيبتها كدولة عظمى، و"دبا" عملاقا يفضل حراسة غابات "التايغا" الشاسعة، موطنه.
وبصدد تشبيه روسيا "بالدب" وهو توصيف محبب يفخر به الروس لبلادهم، فقد أكد بوتين في واحد من أحاديثه حول موقع روسيا في العالم الجديد والجيوسياسة أنها كما ذاك "الدب" الذي يحرس "التايغا" ولا يحب مغادرتها، في إشارة ضمنية إلى عدم تبني روسيا أي نوايا للتمدد أو التوسع في أوروبا وسواها.
فبالعودة إلى 2008 اضطرت روسيا بقيادة الرئيس دميتري ميدفيديف حينها، مستندة إلى ما أسس له بوتين، لتلبية طلب جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والدفاع عنهما في وجه مغامرة الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي وطرد قواته الى حيث جاءت مما أثار حفيظة الغرب وأشعل الشرارة الأولى في وقيد المنافسة الجيوسياسية وحرب المصالح في العالم.
وأعقبت هذه التطورات الأزمة الأوكرانية وتخبط الاتحاد الأوروبي إزاء سبل حلها بما لا يتعدى على مصالح روسيا التاريخية في أوكرانيا ويفكك أواصر الدين والثقافة والتاريخ التي تربط البلدين.
هذه التطورات المخيفة على حدود روسيا وفي حديقتها الخلفية كما يقال اضطرتها بقيادة "القيصر" بوتين للدفاع عن مصالحها وحماية الاستفتاء العام في القرم على الانضمام الى روسيا بإرسال قوات خاصة في جنح الظلام وخفية عن أعين الناتو والولايات المتحدة وأجهزة رصدها وأقمارها الى أراضي القرم وفرض طوق بحري وجوي عليها.
واستمرت "عملية تأمين الاستفتاء" هناك حتى قال الشعب كلمته "نعم" للعودة إلى أحضان روسيا الاتحادية البلد الأم لشبه جزيرة القرم التي كانت قد ألحقت إداريا وبقرار من الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف بأوكرانيا السوفيتية الإشتراكية لترثها بعد زوال الاتحاد السوفيتي بما فيها وعليها.
المواجهة الصعبة الأخيرة وليست الآخرة على ما يبدو التي تخوضها روسيا ذودا عن مصالحها، وترسيخها لنهج القيادة الروسية المتمسك بمبادئ القانون الدولي ووحدة أراضي الدول وسيادتها وحق الشعوب في تقرير المصير، تتمثل تزامنا مع عيد ميلاد بوتين الـ63 في العملية الجوية الروسية التي أطلقتها موسكو مؤخرا في سوريا.
العملية في سوريا مستمرة، وبطلب رسمي من القيادة الشرعية فيها، واستنادا الى القانون الدولي بعد انتظار من موسكو استمر أكثر من خمس سنوات، وها هي الطائرات الروسية تواصل غاراتها بالتنسيق مع الجيش السوري لتحرز في غضون أيام على انطلاقها، وحسب مراقبين، ما لم ينجزه التحالف الدولي والعربي بقيادة واشنطن طوال أكثر من عام وهو يلاحق تنظيم "داعش" بلا جدوى تذكر على الأرض، بل تابع تفشيه سرطانا نهش من جسد سوريا والعراق حتى الآن مساحات تفوق مساحة بريطانيا بكاملها.
فهل سيكتب النجاح للعملية الجوية الروسية في سوريا، وهل سيطفئ الزعيم الروسي بوتين نار الحرب هناك مع إطفاء شمعة ميلاده الـ63؟ هذا ما يعول عليه الكثيرون في العالم وفي مقدمتهم السوريون رغم تحفظ واشنطن والأطراف الغربية على مآل هذه العملية، ورغم ما يأخذه الغرب على موسكو في قرارها الذي لم تعلم به الولايات المتحدة إلا قبل ساعة واحدة على غاراتها.
صفوان أبو حلا
ملاحظة:
قراءنا الكرام الآراء الواردة في المقالات التي تنشر على الموقع تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع