فقد تصدرت وسائل الإعلام أنباء تفيد باستعدادات عسكرية روسية للتدخل في سوريا، وشروع موسكو بإرسال خبرائها ومستشاريها العسكريين إلى مطار اللاذقية، وأن الأقمار الصناعية الأمريكية سجلت تحركات عسكرية روسية. بل وذهب العديد من وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية العربية، نقلا عن مصادر ومواقع غربية وإسرائيلية، للتأكيد على أن "الجيش الأحمر" سيطر على شمال سوريا استعدادا للمعركة الفاصلة ضد قوات التحالف الأمريكي. ومع الأسف لا يوجد أصلا جيش أحمر الآن منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.
وعلى الرغم من كل هذه المعلومات والأنباء عبر وسائل الإعلام، والتسريبات التي تحصل عليها كبريات الصحف الأمريكية والبريطانية والفرنسية، إلا أن هناك جانبا آخر يجري التعتيم عليه، وهو بدء فرنسا وبريطانيا الاستعدادات لقصف سوريا تحت دعوى "محاربة داعش على الأراضي السورية". وفي كل الأحوال، فقد استبقت الصحف الإسرائيلية نظيراتها الأمريكية بنشر أنباء حول دعم روسي للحكومة السورية، ووجود طيارين ومستشارين روس على الأراضي السورية.
لقد ردت الخارجية الروسية على التسريبات الأمريكية، ونقلت على لسان الوزير سيرغي لافروف أن الجانب الروسي يقدم مثل هذه المساعدات دائما، وقدمها في السابق، كما أنه لم يخف أبدا تزويده السلطات السورية بمعدات قتالية بهدف مكافحة الإرهاب".
أما وزارة الخارجية الأمريكية فقد أعلنت عقب المكالمة، أن كيري أعرب عن قلقه مما وصفه بحشد عسكري روسي مباشر وموسع في سوريا. وأن هذه الإجراءات قد توقع المزيد من الضحايا، وتهدد بمواجهة مع التحالف الأمريكي في العراق وسوريا.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه أعلن صراحة أن موسكو تقدم لدمشق دعما كبيرا، بما في ذلك توريدات المعدات والأسلحة وتدريب العسكريين السوريين. وأشار إلى أن العقود الموقعة بين البلدين في المجال العسكري يجري تنفيذها حاليا، مشددا في الوقت نفسه على أنه من السابق لأوانه الحديث عن مشاركة روسيا في التحالف الأمريكي لمكافحة "داعش".
وإمعانا في تعميق الحرب الإعلامية، سربت الإدارة الأمريكية أنباء تفيد بتغير موقف موسكو من "مصير بشار الأسد"، وهو الأمر الذي كان، ولا يزال، محل خلاف شديد بين موسكو من جهة، وبين واشنطن وأنقرة والرياض وعدد من العواصم الغربية من جهة أخرى. هذا الأمر نفته أيضا الخارجية الروسية. ووصفت زاخاروفا التقارير الإعلامية التي تحدثت عن توصل موسكو إلى اتفاق مع واشنطن والرياض حول الإطاحة بالأسد، بأنها أوهام ومعلومات مزورة. وأوضحت أن بعض الأوساط السياسية في الغرب يبدو عاجز تماما عن استخلاص العبر من أخطائه، على الرغم من أن العواقب المأساوية لتلك الأخطاء تتجلى أكثر يوما بعد يوم بالنسبة للأوروبيين أنفسهم.
المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أشارت إلى أن آلاف اللاجئين الذين تعرضت دولهم لاختبارات أجراها الغرب في سياق "هندسته الاجتماعية"، وبالدرجة الأولى، في سوريا وليبيا والعراق واليمن وأفغانستان، يدقون أبواب الاتحاد الأوروبي. وأضافت محذرة أنه "على الرغم من ذلك، لا يسارع بعض السياسيين الغربيين إلى تعديل خططهم التي اتضحت أنها قصيرة النظر، والتي أدت إلى نشوب كل هذه القضايا، بل يصرون على تطبيق مقارباتهم الفاشلة، وهو أمر قد يؤدي إلى ظهور تحديات أخطر وقضايا جديدة تحمل طابعا عالميا".
من الواضح أن هناك من يحاول جر روسيا إلى هذه الحملة الفاشلة عن طريق نشر أخبار ملفقة ومعلومات مزورة، تستهدف تحميل روسيا جزءا من المسؤولية عن مأساة منطقة الشرق الأوسط والخطر الذي بات يهدد الأمن الأوروبي والعالمي. هناك أيضا تصريحات سابقة للرئيس الروسي ووزير الخارجية لافروف بأن روسيا لا تنخرط في أية "هندسة اجتماعية"، ولا تعين رؤساء في دول أجنبية، ولا تقيل أحدا منها في إطار تآمر مع طرف ما. ومع كل ذلك، لم تنف موسكو وجود خبراء عسكريين روس في سوريا، وفقا للاتفاقيات العسكرية الموقعة مع دمشق. إلا أن وسائل الإعلام الغربية أكدت على لسان مسؤولين في البيت الأبيض وجود معلومات تفيد بأن روسيا أرسلت إلى مطار اللاذقية معدات ومباني جاهزة تتسع لإيواء مئات الأشخاص، ووجود طيارين روس أيضا.
وعلى الرغم من الحملة الإعلامية الغربية المثيرة للسخرية، والتي تنقل عنها وسائل الإعلام العربية بشكل مباشر، لا يستبعد بعض التقرير وجود استعدادات غربية لإجراء عمليات عسكرية سريعة على الأراضي السورية. فقد أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أنه أوعز لوزير الدفاع بتنفيذ تحليقات استطلاعية على حدود سوريا من أجل توجيه ضربات إلى مواقع "داعش" على الأراضي السورية. المثير أن هولاند شدد على إن باريس لا تخطط لإجراء عملية برية في سوريا لكن بلاده تستعد لقصف مواقع تنظيم "داعش" الإرهابي هناك، موضحا أن ما يجري يمثل تهديدا جديا لفرنسا، وأن هذا الخطر ينبع من أراضي سوريا.
وفي نفس السياق رجحت تقارير إجراء تصويت داخل مجلس العموم البريطاني في شهر أكتوبر/ تشرين أول المقبل لإعطاء الضوء الأخضر لحكومة ديفيد كاميرون بإشراك المقاتلات البريطانية في توجيه ضربات داخل سوريا. غير أن كاميرون نفسه اعترف أمام مجلس العموم بأن طائراته قصفت مواقع في سوريا في 21 أغسطس/ آب الماضي.
ولا يمكن أن نتجاهل هنا الاتفاق التركي–القطري على مشاركة الأخيرة في شن غارات جوية على مواقع تنظيم داعش في سوريا والعراق، تنطلق من القواعد التركية. وهو ما أكدته صحيفة "حريت" التركية يوم 7 سبتمبر/أيلول الحالي، نقلا عن مصادر في الحكومة التركية.
كل ذلك إضافة إلى تحركات أمريكية واضحة في الداخل السوري بتواجد عناصر الاستخبارات والقوات الخاصة الأمريكية التي بدأت العمل على الأراضي السورية، وتصريحات وزير الخارجية الأمريكي عن خطط جديدة تقضي بإشراك قوات برية عربية للدخول إلى سوريا، ومباحثات لوسطاء أمريكيين مع بعض التنظيمات المسلحة (جبهة النصرة) للمشاركة في القتال إلى جانب عناصر المعارضة السورية "المعتدلة المسلحة".
لقد استبق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه الضجة الإعلامية، بتصريحات مهمة، أثناء تواجده في بكين. إذ أعلن أنه من السابق لأوانه الحديث عن مشاركة موسكو في عملية عسكرية محتملة ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا. وأوضح "أنه موضوع منفصل. أما ما نراه حاليا، فهو قيام الطيران الأمريكي بتوجيه ضربات معينة. لكن هذه الضربات غير فعالة. ومن السابق لأوانه الحديث عن استعدادنا للقيام بهذه المهمة. إننا نقدم لسوريا دعما كبيرا، بما في ذلك توريدات المعدات والأسلحة وتدريب العسكريين السوريين".
إن الحملة الإعلامية والتسريبات الأمريكية – الأطلسية حول استعداد روسيا للحرب في سوريا تأتي على خلفية انشغال العالم كله بأزمة المهاجرين. لكن كل الشواهد تشير إلى أن الولايات المتحدة تقوم بترتيبات محددة في اتجاه العمل المباشر على الأراضي السورية بالاشتراك، إلى الآن، مع فرنسا وبريطانيا وتركيا وقطر وبعض الدول الأخرى. وربما تستمر هذه الترتيبات إلى نهاية سبتمبر الحالي لحين انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، واجتماع الرئيس الأمريكي باراك أوباما "بشكل غير رسمي" مع رؤساء بعد الوفود العربية والأوروبية يوم 29 سبتمبر لبحث خطة جديدة لمكافحة الإرهاب، وأمن إسرائيل، ووضع إيران في المنطقة، وبعض الملفات الأمنية الأخرى.
أشرف الصباغ