كل ذلك لخلق ذرائع دموية جديدة. فإذا كانت شهية الإعلام الغربي والعربي قد انفتحت فجأة للتلاعب بمأساة إنسانية نتجت بالدرجة الأولى عن استفحال الإرهاب واتساع نطاقه، فالشهية السياسية لدى قادة وساسة العديد من الدول بدأت باستخدام أزمة اللاجئين لاستكمال أوراق ناقصة تخدم أهداف بعينها.
رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو انتقد الدول الأوروبية بسبب الأعداد الصغيرة للغاية من اللاجئين التي يقبل بها الاتحاد الاوروبي، واصفا القارة الأوروبية بالقلعة المسيحية. ولم ينس أوغلو تذكير أوروبا بأن تركيا استقبلت أكثر من 2 مليون لاجئ من سوريا والعراق وأوجدت "منطقة عازلة بين الفوضى وبين أوروبا".
أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد اتهم الدول الأوروبية بتحويل البحر الأبيض المتوسط إلى "مقبرة للمهاجرين" ردا على نشر صورة الطفل السوري الذي عثر عليه غريقا على أحد شواطئ تركيا. وشدد على أن ذلك يجعل منها شريكة في الجريمة التي تقع كلما يقتل لاجئ.
من الواضح أن تركيا تحاول دفع المأساة الإنسانية إلى قضية طائفية دولية، لا تتوقف فقط عند المسلمين والمسيحيين، بل وتصل في بعض وسائل الإعلام إلى أنه يتم إجبار اللاجئين المسلمين على اعتناق المسيحية. الأمر الذي يصب في خانة الدعاية الدينية المتطرفة، ويخدم سيناريوهات ليس فقط داعش، بل وأيضا كل الأحزاب والتنظيمات الإرهابية التي تحاول ارتداء ثوب المعارضة الدينية.
على الجانب الآخر، الأكثر تطرفا، تصدر تصريحات مختلفة، سواء من الأحزاب اليمينية الأوروبية أو من وسائل الإعلام الصفراء لتسلط الضوء على المخاطر التي تهدد الهوية الأوروبية من تواجد هذه الأعداد الضخمة من اللاجئين "المسلمين" في المجتمعات الأوروبية. بينما تحذر الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من إمكانية تسلل عناصر داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية وسط اللاجئين إلى دول أوروبا "لاستكمال مهمة إقامة دولة الخلافة".
في مقال سابق تحدثنا عن إمكانية تحويل قضية اللاجئين السوريين تحديدا إلى رأس حربة موجهة لا للإرهاب، وإنما للنظام السياسي في دمشق، واستخدام هذه الورقة لدق أسافين طائفية تخدم الإرهاب والتطرف وطموحات بعض الساسة الذين يدعمون الإرهاب والعنف من جهة، وتمنح الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة الذريعة الأقوى لتنفيذ السيناريو الليبي في سوريا من جهة أخرى، ولكن باستخدام قوات عربية برية هذه المرة، وفقا لتصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وعلى نفس نهج مدير الاستخبارات الأمريكية ديفيد بتريوس الذي يرى ضرورة التعاون مع تنظيمات إرهابية أخرى مثل جبهة النصرة.
الولايات المتحدة، تلك الدولة الضخمة، أعلنت أنها سوف تستقبل 1800 لاجئ سوري حتى نهاية العام الحالي. لا أحد يدري لماذا هذا العدد بالضبط. ولكن الأكثر إثارة للتساؤل هو مواصلة واشنطن الضغط على الدول الأوروبية من أجل استقبال المزيد من اللاجئين السوريين. وهو ما يعطي انطباعا بأن هناك سيناريو خاصا بهذا الأزمة سنرى بوادره قريبا مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة وأن مصادر بجامعة الدول العربية أكدت بأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما سوف يعقد اجتماعا غير رسمي يوم 29 سبتمبر/ أيلول الحالي مع رؤساء وفود عربية وأوروبية لمناقشة خطة جديدة لمكافحة الإرهاب، وأمن إسرائيل، ودور إيران في المنطقة.
الدول الأوروبية من جانبها سقطت في مصيدة خلافات غير معروفة الأسباب أو الأهداف. ففي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومات الرسمية عن التسامح وضرورة احتواء اللاجئين مع بعض التحذيرات المبطنة، تخرج الأحزاب الرسمية ذات التأثير الاجتماعي لا لتحذر فقط من وجود هؤلاء اللاجئين والمخاطر التي يشكلونها على المجتمع والهوية الأوروبيين، بل وتتهم أيضا حكومات أوروبية أخرى باستخدامهم في أهداف أخرى كشكل من أشكال الإدانة على مبدأ الموافقة على اللجوء نفسه. فقد وجهت مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية المتطرفة اتهامات شديدة اللهجة لألمانيا التي فتحت حدودها أمام آلاف من المهاجرين وطالبي اللجوء معتبرة أن برلين تسعى إلى اتخاذ هؤلاء المهاجرين "عبيدا" وتشغيلهم بأجور متدنية. وقالت مارين لوبان، المعروفة بمعارضتها للهجرة، لمؤيديها إن ألمانيا تظن أن سكانها يشرفون على الهلاك، وربما تكون تسعى إلى إعطاء أجور متدنية، لذا فإنها تواصل جلب العبيد من خلال الهجرة الجماعية. ومع ذلك أعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بأن بلاده سوف تستقبل 24 ألف لاجئ خلال العامين المقبلين. ويبقى فقط التساؤل، لماذا هذا العدد بالضبط، ولماذا خلال عامين، بينما داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى تواصل تدمير سوريا والعراق وليبيا!
التصريحات التركية بشأن اللاجئين السوريين تمثل الوجه الآخر لتصريحات الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة. ولن نتحدث عن الأحزاب والمنظمات النازية التي قد تبدأ حملات "إرهابية" حقيقية ضد هؤلاء اللاجئين، بمن فيهم من أطفال ونساء. أما الساسة الأوروبيون فهم يحاولون الآن بلورة رؤى سياسية تتوافق وسيناريوهات واشنطن وحلفائها من الشرق والغرب لخلق ذرائع جديدة، وتحميل النظام السوري المسؤولية الكاملة، بينما يتوسع تنظيم داعش ويثبت أقدامه رغم الضربات العسكرية "الهوليوودية" التي توجهها واشنطن وحلفاؤها يوميا، وكأن الهدف الحقيقي من مكافحة الإرهاب هو توجيه هذه الضربات والإعلان عنها كانتصارات جبارة، بصرف النظر عن توسع التنظيم الإرهابي الذي يواصل تصدير النفط والحصول على أسلحة ومعلومات وتدمير البنى التحتية والإرث الحضاري والثقافي لدول المنطقة.
أشرف الصباغ