قبل يوم واحد من لقاء "فريق الحرب" الأطلسي، أعلنت واشنطن نيتها نشر 250 مدرعة في 7 دول أوروبية، بالإضافة إلى إرسال جنود أمريكيين إلى 6 دول في وسط وشرق أوروبا. وقال وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، خلال زيارته إلى إستونيا، إن الولايات المتحدة ستبدأ أيضا بنشر سرية أو كتيبة في كل من بلغاريا وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا وبولندا ورومانيا وألمانيا، وذلك بشكل مؤقت على الأقل.
وفي ذات السياق، أكد وزير الدفاع الإستوني سوين ميكسر خلال لقائه مع آشتون، أن بلاده مستعدة لتوفير ظروف مناسبة لنشر الأسلحة والمعدات على أراضي إستونيا. بينما أكد وزير الدفاع الليتواني يوزاس أوليكاس أنهم يقومون بتحديث وتوسيع الميادين لتصبح الوحدات العسكرية الليتوانية قادرة على استقبال المعدات التي من المخطط نشرها في ليتوانيا. وفي الوقت الذي كانت تجري فيه مباحثات آشتون كارتر مع وزراء دفاع دول البلطيق، رست سفينة "سان أنتونيا" للإنزال التابعة للقوات البحرية الأمريكية في ميناء تالين (عاصمة إستونيا). وتقدر السفينة على إنزال 800 فرد من مشاة البحرية، إلى جانب المعدات العسكرية.
توقف وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر في كل من ألمانيا وإستونيا أثناء توجهه إلى بروكسل. هاتان المحطتان مهمتان على خلفية التهديدات الأمريكية – الأطلسية المتكررة بتخزين أسلحة ثقيلة في أوروبا. وتعتبر دول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) أقوى الأماكن المرشحة لنشر هذه الأسلحة، إضافة إلى بولندا ورومانيا وبلغاريا والمجر. لكن تصريحات قادة القوات الأمريكية تشير إلى أن القاعدة العسكرية الأمريكية في مدينة غرافينفير الألمانية قد تكون المكان الأساسي لنشرها.
وعلى الرغم من الخضوع الألماني شبه الكامل لرغبات الولايات المتحدة، إلا أن مجلة "دير شبيغل" نشرت أن ألمانيا وفرنسا ترفضان نشر صواريخ أمريكية مزودة برؤوس نووية في أوروبا. وإذا كانت مصادر المجلة الألمانية صحيحة، فإن أسباب مخاوف فرنسا تختلف عن أسباب مخاوف ألمانيا. فالأولى، تدفع واشنطن إلى المزيد من المغامرات في أوكرانيا والشرق الأوسط وأوروبا لتتمكن من تحقيق طموحاتها في شمال أفريقيا. بينما الثانية تتخوف من أن تتحول إلى رأس جسر لحلف الناتو ضد روسيا. وربما لا يعرف أحد عواقب المواجهات مع روسيا أكثر من ألمانيا.
في أول تصريحات وزير الدفاع الأمريكي في مستهل جولته الأوروبية، شدد على أن واشنطن تنوي في هذه الفترة سلوك نهج قوي ومتزن في العلاقة مع روسيا، وأن للخلافات الحادة مع موسكو طابع طويل الأمد. هذا التصريح يتماشى مع دعوة صقور الكونغرس والبنتاغون الدول الأوروبية لزيادة ميزانيات الدفاع "من أجل مواجهة الغزو الروسي لأوروبا". وهو أيضا ما دعا إليه الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ أكثر من مرة.
من الواضح أن الولايات المتحدة ترفض تصديق أي شيء، ولا تريد سماع إلا ما يدور في رأس ساستها من الصقور. وفي الوقت نفسه، ترفض الالتزام بأي ضمانات مكتوبة للحفاظ على الأمن الدولي عموما، والأمن الأوروبي بالذات، وخصوصا ما يتعلق بأمن روسيا ومصالحها. لقد اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في حديث لصحيفة "ديلا سييرا" الإيطالية في 6 يونيو/ حزيران الجاري، أن من يستطيع تخيل هجوم روسيا على الناتو ليس عاقلا، وأن بعض الدول تتلاعب بمشاعر الخوف من روسيا. وأعرب بوتين عن رأيه بأن الأمريكيين لا يرغبون كثيرا بالتقارب الروسي - الأوروبي بل يريدون الحفاظ على زعامتهم. وطمأن بوتين جميع الأطراف بأنه "لا داعي للخوف من روسيا، فالعالم تغير إلى ذاك الحد الذي لا يستطيع فيه العاقلون تصور مثل هذه الأزمة العسكرية الشاملة اليوم".
وفي نفس هذا السياق نفى رئيس الديوان الرئاسي الروسي سيرغي إيفانوف، في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز" الأحد 21 يونيو/حزيران، كل المزاعم حول وجود تهديد من قبل روسيا لدول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، واصفا إياها بـ"الهوس المرضي" الذي لا أساس له أصلا. وأشار إلى أن الهدف من هذه التصريحات ليس إلا محاولة هذه الدول الحصول على تمويل إضافي من قبل الناتو. وشدد رئيس ديوان الكرملين على أن روسيا ليست "دولة انتحارية" كي تفكر جديا في شن هجوم على حلف شمال الأطلسي.
إذن، ماذا يريد حلف الناتو، وواشنطن؟ إن نفقات الولايات المتحدة العسكرية تساوي كل نفقات دول العالم مجتمعة، أما نفقات حلف شمال الأطلسي فهي أكبر بعشر مرات من نفقات روسيا. وفي الوقت نفسه تنشر واشنطن قواعدها العسكرية في الكثير من الدول، بينما يرى الناتو أن أمن العالم كله يدخل في دائرة اختصاصاته ومهامه ونشاطاته. ومع كل ذلك "لا تزال روسيا تشكل خطرا وتهديدا لأوروبا، وتكاد تغزوها في أي لحظة"، حسب قولهم.
الخطوط العريضة لأجندة لقاء وزراء دفاع الناتو في بروكسل تتضمن 3 محاور أساسية:
-التحديات الناجمة عن روسيا وسبل تعزيز أمن حلف الناتو والجبهة الجنوبية للحلف في ظل الأزمة الأوكرانية.
- الخطر الذي يشكله تنظيم "داعش".
-خطط الحلف لتقديم مساعدة للقوات العراقية في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
بعض المصادر تتحدث عن إمكانية تناول الملف الأفغاني، وبعض الملفات التي قد يطرحها وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، والتي تتعلق بمغامرات بلاده في عدد من النقاط الساخنة. لكن الملفت أن واشنطن والحلف مصممان على المضي قدما في التصعيد مع روسيا، وابتزاز أوروبا، والتخلي عن كل المنجزات التي تم تحقيقها في السنوات العشرين الأخيرة، وإعادة العالم إلى الوراء مرة أخرى.
لقد نقلت وسائل الإعلام الغربية عن دبلوماسي رفيع في حلف الناتو أن وزراء دفاع دول الحلف سيبحثون الاستراتيجية النووية الروسية، ووثيقة سرية أعدتها قيادة الحلف بهذا الخصوص، مشيرة إلى أن المشاركين في الاجتماع يرغبون في تحليل كيف يمكن أن يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السلاح النووي في مواجهة مع الغرب، وما هي إمكانيات روسيا، وما هي مضاعفات ذلك على الناتو. وهو ما يعني أن حالة الهيستيريا وصلت إلى مستوى مثير للمخاوف والشكوك في آن واحد. وأن هناك حالة مبالغة شديدة تهدف لا إلى مواجهة مخاطر وتهديدات روسية "وهمية"، بل حملة استفزاز غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب الباردة، وعسكرة أوروبا التي يعاني مواطنوها من حملة تضليل سياسي وإعلامي، سواء في ما يتعلق بمخاطر العقوبات الأوروبية ضد روسيا وانعكاسها على أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، أو بشأن التهديدات الوهمية التي يصورها لهم ساستهم بأنها آتية من روسيا.
في ضوء هذه الفوضى المتعمدة والمقصودة من جانب الولايات المتحدة وحلفها الأوروأطلسي، حذر رئيس الجامعة الأمريكية في موسكو إدوارد لوزانسكي من عواقب امتناع الولايات المتحدة عن الحوار مع روسيا، مشيرا إلى أن ذلك سيؤدي إلى كارثة. وأوضح لوزانسكي في مقالة نشرت في مجلة "The Nation" الاثنين 22 يونيو/حزيران أن العالم مهدد بعواقب كارثية إن لم تعد واشنطن وموسكو إلى الحوار بشأن قضايا انتشار السلاح النووي والأمن النووي.
إن التناقضات بين الدولتين الكبريين وصلت إلى نقطة حرجة، حسب لوزانسكي الذي أشار إلى أن الولايات المتحدة تتهم روسيا بانتهاك المعاهدة الخاصة بتدمير الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى سارية المفعول منذ عام 1988. لكنه شدد في الوقت نفسه على أن موسكو بدورها لديها كل المبررات للاعتقاد بأن الناتو ينتهك بحكم الأمر الواقع المعاهدة الخاصة بالأسلحة التقليدية في أوروبا، علاوة على إعلان واشنطن المتكرر عن خططها بشأن نشر منظومة استراتيجية مضادة للصواريخ في أوروبا، وقيام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتجميد اللجان الـ 21 التي شكلتها روسيا والولايات المتحدة والتي ارتكزت في عملها على الخبراء في مجالات واسعة، أهمها الحد من التسلح وأمن الإنترنت والتعاون العسكري. وكل ذلك بذريعة معاقبة روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، كما يؤكد لوزانسكي.
وإذا كان لوزانسكي، في هذا السياق، حذر من أن كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى بدء سباق تسلح جديد لا تحمد عقباه، فقد وصفت موسكو الخطط الأمريكية لإرسال المعدات العسكرية إلى شرق أوروبا بأنها خرق للاتفاقات السابقة بين روسيا والناتو، وأن واشنطن تسعى على ما يبدو في تعاملها مع حلفائها، إلى التقويض النهائي للبند المحوري في وثيقة "روسيا-الناتو" الأساسية التي تم التوقيع عليها عام 1997، والتي تلزم الحلف بعدم نشر عدد كبير من قواته على أراضي شرق أوروبا بشكل دائم.
أشرف الصباغ