منذ البداية، كانت استحالة تنفيذ أغلبية الوعود الانتخابية لبوروشينكو واضحة للعيان، ومنها انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي في غضون عامين، والتخلص من التبعية لروسيا في مجال توريدات الغاز، واستحصال تعويضات من روسيا على خلفية انضمام شبه جزيرة القرم إلى قوامها بعد خروجها من قوام أوكرانيا!
وتبين أن حتى أبسط الوعود الانتخابية لبوروشينكو وهي وعده ببيع شركته "روشين" المنتجة للشوكولا والحلويات، مستحيل تنفيذه أيضا، وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية المستمرة في البلاد التي منعت الرئيس من إيجاد مشتر يوافق على شراء إمبراطورية الشوكولا الضخمة بمبلغ يزيد عن ثلث قيمتها الحقيقية.
الأزمة الاقتصادية تتفاقم
فاز بوروشينكو في الانتخابات بحصوله على 54,70 % من الأصوات فيما بلغت نسبة المشاركة 59,48 %، علما بأن الاقتراع لم يجر في مساحات واسعة من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك في شرق البلاد، نتيجة النزاع المسلح الذي بادرت كييف إلى إطلاقه في أبريل/نيسان عام 2014.
ويرى مراقبون أن سبب الشعبية المرتفعة لبوروشينكو في بداية ولايته الرئاسية كان يكمن ليس في تمويله لاحتجاجات "الميدان" المعارضة للرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، بل في عدم وجود أي مرشح بديل له. وكان الناس يأملون في أن يتمكن رجل الأعمال الذي قيمت "فوربس" ثروته بـ1.3 مليار دولار، من تجاوز قضايا أوكرانيا الاقتصادية.
لم تأت الأزمة الاقتصادية بسبب احتجاجات "الميدان" المناهضة ليانوكوفيتش والمؤيدة للتكامل الأوروبي، بل بدأت قبل أشهر من ذلك بسبب قضايا هيكلية في الاقتصاد تراكمت منذ سنوات. وكانت الأزمة الاقتصادية السبب الرئيسي وراء قرار يانوكوفيتش تأجيل التوقيع على اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي والتوجه إلى روسيا بطلب استغاثة، إذ منحت الأخيرة كييف قرضا قيمته 3 مليارات دولار.
وبعد الإطاحة بيانوكوفيتش نتيجة الانقلاب على السلطة في فبراير/شباط عام 2014، توقفت روسيا عن تقديم دفعات جديدة من القرض، أما الغرب الذي أيد الانقلاب، فلم يقدم أية مساعدات ملموسة لأسابيع طويلة، مبررا تقاعسه هذا بعدم وجود رئيس وحكومة دائمة في البلاد.
وفي نهاية المطاف وافق صندوق النقد الدولي على منح أوكرانيا مساعدات تقدر بـ 17.5 مليار دولار ضمن برنامج مساعدات مالية مدته أربع سنوات، شريطة قيام الحكومة الأوكرانية برفع أسعار التدفئة والغاز داخل البلاد.
أما الآن فيتعين على أوكرانيا التوصل إلى تسوية مع مقرضيها بحلول نهاية شهر مايو/أيار القادم، كشرط للحصول على الشريحة التالية من المساعدات المالية التي يقوم صندوق النقد الدولي بتوفيرها.
وخلال الأشهر الستة الماضية حصلت أوكرانيا على مساعدات دولية تقدر بعشرات مليارات الدولارات من صندوق النقد ودول مجموعة "السبع الكبرى"، لكن هذه المساعدات لم تساهم في رفع مستوى معيشة السكان، بل أدت فقط إلى زيادة حجم الديون الخارجية لأوكرانيا والتي بلغت 50 مليار دولار.
أما الإنتاج المحلي الإجمالي فتراجع خلال الربع الأول من عام 2015 بـ17.6 %.
وفي هذا السياق دعت وزيرة المالية الأوكرانية ناتاليا ياريسكو إلى شطب جزء يقدر بـ 15 مليار دولار من ديون أوكرانيا الخارجية، فيما صادق البرلمان الأوكراني على قرار يسمح للحكومة بتأجيل سداد الديون، وذلك في محاولة لتجنب دفع مستحقات الديون المترتبة لروسيا.
مسألة الغاز
كان بوروشينكو يتعهد لناخبيه بالانتقال لشراء الغاز من أوروبا والتخلص من التبعية لروسيا. وفي إطار جهوده للوفاء بهذا الوعد، توقفت أوكرانيا عن سداد ديونها الناتجة عن شراء الغاز الروسي، ما دفع بروسيا إلى قطع الإمدادات.
واستمرت أزمة الغاز لأشهر، حتى تمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق مؤقت، تورد بموجبه روسيا الغاز إلى أوكرانيا بكميات سددت كييف قيمتها مقدما. كما اضطرت كييف لدفع جزء من الديون المتراكمة، أما الجزء المتبقي من الديون، فرفع الطرفان خلافهما بشأن حجمه إلى هيئات تحكيم دولية.
الخلافات السياسية
تعهد بوروشينكو قبيل الانتخابات الرئاسية التي جرت في 25 مايو/أيار عام 2014، بأن يصبح رئيسا للأوكرانيين جميعهم. لكنه فشل في الوفاء بهذا الوعد، ليس بسبب استمرار النزاع العسكري في شرق البلاد فحسب، بل بسبب انقسام ما يسمى "تحالف القوى الديمقراطية". وتبين ذلك بوضوح خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، إذ رفض العديد من حلفاء بوروشينكو، وفي طليعتهم رئيس الوزراء أرسيني ياتسينيوك الانضمام إلى "كتلة بيترو بوروشينكو". وكان الفائز في الانتخابات هو حزب ياتسينيوك، وليس الأحزاب المنضوية تحت شعار "كتلة بوروشينكو".
كما أطلق بوروشينكو حربا ضد الأوليغارشية على الرغم من انتمائه نفسه إلى هذه الطبقة بالذات، وانخرط في خلاف طويل وخطير مع إيغور كولومويسكي مالك أكبر مجموعة مصرفية في البلاد، أدى إلى إقالة الأخير من منصب محافظ مقاطعة دنيبروبتروفسك.
وبالإضافة إلى تقلص عدد الحلفاء السياسيين، تراجع أيضا مستوى التأييد الشعبي لـ بوروشينكو، إذ تجري احتجاجات مناهضة له في العاصمة كييف بصورة شبه أسبوعية، ومنها احتجاجات أقارب العسكريين المشاركين في العمليات القتالية بشرق البلاد، واحتجاجات لعمال المناجم اشتكوا من فشل السلطات في تسديد رواتهم، واحتجاجات للقوميين المتطرفين وأنصار احتجاجات "الميدان"، الذين يرون أن الرئيس فشل في تلبية مطالبهم.
وعلى الرغم من تبني قانون "تطهير السلطة" في الخريف الماضي والذي كان يستهدف طرد ممثلي النظام السابق من المؤسسات الحكومية، إلا أن العديد من البيروقراطيين ما زالوا يحتفظون بمناصبهم، أما الفساد الإداري، فلم يتراجع قط، بل وازاداد حجما، حتى بات المقرضون الدوليون قلقين من مصير المساعدات التي قدموها لأوكرانيا.
وما زالت العضوية في الاتحاد الأوروبي حلما بعيد المنال، وهذا ما أكدته قيادة الاتحاد خلال القمة الأخيرة للشراكة الشرقية والتي انعقدت في ريغا الأسبوع الماضي. ولا يريد الاتحاد الأوروبي الحديث حتى عن إعفاء الأوكرانيين من تأشيرات الدخول لزيارة أراضيه.
أما اتفاقية الانتساب التي كانت "حجر العثرة" منذ البداية، فلا تطبق أيضا، أو على الأقل في بنودها الاقتصادية، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق ثلاثي بين أوكرانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي بشأن تأجيل تنفيذ الاتفاقية وإجراء مزيد من الدراسات والمشاورات.
جو من الخوف
تكبدت أوكرانيا خلال السنة الماضية خسائر بشرية فادحة، وذلك ليس بسبب النزاع المسلح في شرق أراضيها فحسب، بل وبسبب تنامي الجريمة والتطرف. من الجرائم الأكثر بشاعة كانت المحرقة في مدينة أوديسا في مايو/أيار عام 2014، حيث لقي العشرات من معارضي سلطات كييف، مصرعهم في اشتباكات مع موالين وفي حريق أضرمه الآخرون في مبنى لجأ إليه المعارضون.
وتمكنت السلطات من كسر ظهر المعارضة في المناطق الخاضعة لسيطرتها بفضل إجراءات قمعية قاسية وعمليات اعتقال تعسفية وملاحقة القوى السياسية التي لا تروق لكييف، ومنها الحزب الشيوعي، فيما اضطر عدد من السياسيين ومنهم المرشح الرئاسي السابق أوليغ تشاريوف إلى الانتقال إلى دونباس هربا من الملاحقة.
وفي الأشهر الأخيرة شهدت البلاد سلسلة من الاغتيالات السياسية بحق نواب سابقين وصحفيين معارضين. أما التحقيقات في كل هذه الجرائم، فلم تؤد إلى أية نتائج حتى الآن.
تكريس الانقسام
الوعد الانتخابي الرئيسي لـ بوروشينكو كان يتعلق بإنهاء الحرب في دونباس في أقرب وقت ممكن. ومنذ الأيام الأولى بعد تسلمه السلطة، عمل الرئيس على تصعيد العملية العسكرية ضد جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين من جانب واحد. وفشل.
على الرغم من موجات التعبئة العسكرية العديدة، والإهانات التي خضع لها بوروشينكو للحصول على المساعدات العسكرية من الغرب (في البداية، رفضت واشنطن تقديم أية مساعدات للجيش الأوكراني باستثناء وجبات طعام جافة، سلمتها مع تأخر وسرق جزء كبير منها دون أن تصل إلى الجنود الأوكرانيين)، اضطرت سلطات كييف لقبول التسوية السلمية في سبتمبر/ايلول الماضي، وذلك إثر محاصرة آلاف من جنودها في الشرق من قبل قوات الدفاع الشعبي التابعة لـ دونيتسك ولوغانسك.
وبعد التوصل إلى اتفاق مينسك الأول، ماطلت كييف في تطبيقه، بل وعملت على إثارة التوتر في خط التماس من جديد، وفي نهاية المطاف استأنفت عمليتها العسكرية كاملة النطاق بذريعة مصطنعة، فيما كان بوروشينكو يؤكد تمكسه بخيار التسوية السلمية دون انقطاع!
لكن الهجوم الجديد فشل أيضا، وتكبد الجيش الأوكراني خسائر فادحة. ووافقت كييف على خوض مفاوضات السلام من جديد، جرت هذه المرة بمشاركة زعيمي ألمانيا وفرنسا، وأدت إلى موافقة الجميع على حزمة اتفاقات سلمية ملزمة، فيما تلعب ألمانيا وفرنسا وروسيا دور الدول الضامنة لتطبيق الاتفاقات التي تم التوقيع عليها يوم 12 فبراير/شباط في مينسك.
وساهمت الاتفاقات في تخفيف التوتر ووقف إطلاق النار في دونباس، لكن كييف ما زالت ترفض تطبيق الجزء الأساسي من الاتفاقات والذي يتعلق بالتسوية السياسية وإعادة دمج مناطق دونباس في أراضي البلاد.
يبدو وكأن بوروشينكو برفضه رفع الحصار الاقتصادي المفروض على دونباس، يصر على قطع تلك المنطقة عن بلاده بيديه، وهو يعرقل استئناف تداول العملة الأوكرانية الهريفنا، وإعمار الروابط الاقتصادية المقطوعة جراء العمليات القتالية، واستعادة ثقة السكان بالسلطات الأوكرانية.
مزيد من التفاصيل حول الوضع في أوكرانيا ومرور عام على رئاسة بيترو بوروشينكو في الفيديو:
المصدر: RT