في ظل ازدياد أهمية الفن في العالم المعاصر وتطبيقه في مختلف المجالات توسَع عدد القضايا التي يمكن معالجتُها بواسطة الفنون بما في ذلك الاجتماعية والسياسية والصحية . حوارنا اليوم مع الفنانة ماريا دريزنينا وهي أول باحثة روسية في مجال العلاج بالفن.
س. ماريا غريغوريفنا، انت ولمدة سنوات عديدة قمت بالعمل في مراكز اعادة تأهيل الاطفال، بما في ذلك قمت بمساعدة الاطفال الذين يعانون من مراحل عصيبة في حياتهم! كيف ولماذا قررت اعتماد هذا النوع من العلاج بالفنون؟
بما أنني فنانة محترفة تعلمت الرسم منذ الصغر، ودرست في المدرسة التابعة لمعهد سوريكوف الموسكوفي الأكاديمي الفني العالي، إحدى أفضل المدارس الفنية في الحقبة السوفيتية، وتخرجت من هذا المعهد أيضا. وعلاوة على ذلك ترعرعت في أسرة فنية وانخرطت في الوسط الفني منذ نعومة أظفاري. أنا مثل الكثيرين في تلك الفترة بدأت بتعليم الرسم للأطفال حيث اشتغلت في مراكز حكومية لإعادة التأهيل النفسي والتربوي طوال عشر سنوات. حينها وأثناء عملي مع الأطفال، الذين يعانون اضطرابا في النطق والكلام بدأت بابتكار تمارين مخصصة لهم. المشكلة الأساسية لهؤلاء الأطفال هي في عزلتهم، ورفضهم الاختلاط بالآخرين والتواصل مع العالم، وهم في حالة انقطاع عن الجميع، وذلك لانه من الصعب عليهم التكلم. وخصيصا من أجل أولئك الأطفال وضعت مجموعة ضخمة من تمارين الإيقاع بحيث يقوم المدرس بضبط إيقاع أشكال معينة وسلسلة من الأصوات وتحويلها الى مجموعة من الصور او الرسوم التي يمكن إعادة نطقها.
وهذه الطريقة كانت دائما تتطلب من الشخص التعامل مع مختلف الاطفال، ولكنها لا تزال تفتقر إلى آليات البحث عن حلول للمشكلات الجديدة. وفي كل مرة أسعى لمعالجة مشكلة أو مسألة بقدر امكانياتي وقدراتي الإبداعية كفنانة وانطلاقا من اهتمامي بشخصية الطفل ذاته. وهكذا كانت تولد الرغبة لدي في الاستمرار بعملي والبحث عن أجوبة لمختلف التحديات.
س: ما الذي تنالينه أنت كفنانة ومدرسة عبر مزاولتك لهذه المهنة؟ وماذا يعني لك هذا العمل؟
انه عمل رائع يمنح الشخص حرية كبيرة. وهنا نتحدث ليس فقط عن الأطفال وعن جهد المدرِّس الذي يتعامل معهم. فهذه القضية مهمة جدا هذه الايام، عمل المدرس الذي يتعامل فيه مع الاطفال اصحاب الشخصية الصعبة، ويمكن هنا تشبيه المدرسين بالشمعة، التي تحترق لتضيء العالم بأسره. لذا اعتقد ان المهمة الاولى تستوجب رفع القدرات الابداعية عند المعلمين، وهذا بالتحديد ما أقوم بالتركيز عليه خلال إعداد البرامج والتمارين للمدرسين. واقوم بتقديم مناهج واساليب تطبيقية يضيفون عليها من مخزونهم الابداعي. لذا فعليك أولا ان تكتشف نفسك قبل كل شيء وتثق بأنك انسان مبدع، وأنك بهذه الطريقة تعمل على تحسين نفسك، فقط حينها تكون قادرا على تقديم شيءٍ ما للآخرين.
س: ما نوع المشكلات التي يعالجها بالفن؟
مركزنا ينشَطُ منذ خمس سنوات، وخلال تلك الفترة عملنا مع عدد من دور الأيتام ضمن البرنامج الخيري الذي أعده متحف بوشكين للفنون التشكيلية. هؤلاء الأطفال يواجهون مواقف صعبة في الحياة، فمنهم من تخلى عنهم آباؤهم لسبب أو لآخر، ومنهم من يعيش في دور الأيتام والملاجئ، وآخرون هم أطفال معَوَّقون، والآن هناك الكثير من الأطفال المهجرين من أسرهم الكبيرة يتم إرسالهم إلى مثل هذه المؤسسات لفترة من الوقت، ومثل هؤلاء بحاجة إلى التعاطف معهم ومعاملتهم بطريقة خاصة انطلاقا من نوعية مشاكلهم. ومع الاخذ بعين الاعتبار مجموعة تلك المشاكل التي يواجهها الأطفال نقوم وبمساعدة المتحف على تحديد الطرق اللازمة لذلك. لاحظت من خلال تعاملي معهم ان جميع هؤلاء الاطفال لديهم رغبة كبيرة في العيش والبقاء على قيد الحياة، انهم يعيشون الآن قيما أخرى، واهم شيء بالنسبة لهم هم الأشخاص الذين مدوا إليهم يد العون وابتسموا لهم، ناهيك عن مدى أهمية تواجدهم في المتحف حيث يرون التراث الثقافي العالمي الذي يحق لكل انسان على وجه الارض الاطلاع عليه. على سبيل المثال هنا في هذا المركز أدركت أن بمساعدة المتحف يمكنك أن تتعلم اللغة الروسية! هل تتخيلين؟ لقد تم وضع برنامج هام يتناول طريقة النطق والمعاملة والابداع حيث قمنا بدراسة المفردات الروسية مع أبناء المهاجرين. فعلى سبيل المثال كانت المفردات الروسية الاولى التي تعلمها الأطفال المهاجرين من قيرغيزستان هي ساندرو بوتيتشيلي، لوحة، الالوان الزيتية، كراسة الرسم، فن الرسم وفن النحت. أترين!
س: لو قلنا إن العلاج بالفنون هو نوع من العلاج فبأي الطرق تتم عملية الشفاء؟
بطبيعة الحال، العلاج بواسطة الفن لا يشفي من الأمراض الخطيرة، ولكنه يساعد في التفاعل ويحفز على التواصل وحل بعض القضايا الاجتماعية. وبمساعدة الفن أيضا الذي يعتبرأداة قوية يمكنها الجمع بين الأطفال ومساعدتهم على التواصل وللمتحف دوره الكبير في ذلك، حتى ان الدروس التي اعلمها للاطفال مبنية على هذا الاساس الذي يشجع الأطفال على التفاعل بعضهم مع بعض، ويجعلهم يشعرون بأن هناك عددا من الأشخاص والأطفال الآخرين حولهم. فمثلا، يجلس احد الاطفال وحده لا يتكلم مع احد وبحالة صمت دائمة وفجأة تراه يأخذ فرشاة ويبدأ بالرسم. هذا يعني اننا استطعنا الوصول اليه بعد ان كُسر حاجز الصمت والوحدة. دفعتني الخبرة في العمل مع الأطفال إلى تأليف الكتب، حيث عرضت النتائج العملية واساليب التعامل. أحاول أن آخذ في الاعتبار عددا كبيرا من العوامل التي تجعلني أعلم أي الاطفال سيأتون إلي ونوعيتهم، ومن أين يجب أن يبدأ كل واحد منهم؟ وما هي الاشياء الصعبة بالنسبة لهم؟ وأي المعلومات بامكانهم أن يتعلموها وايها لا يقدرون؟ وبأي الكلمات يجب أن أتحدث اليهم؟ وكم من الكلمات علي أن أقول؟ وإذا ذهبنا إلى متحف إلى أي الأشياء علينا ان ننظر.
س: أين تكمن مهمة الفنان أو المعلم في هذه العملية؟ وما الذي تريدين تنميتَه او اكتشافَه في كل طفل؟
أحد الكتب التي ألفتها يحمل عنوان "كل طفل فنان"، وذلك لاعتقادي بأنه في داخل كل طفل تكمن إمكانات وموارد إبداعية عظيمة، وبالتأكيد هذه الامكانات بحاجة الى تطويرها وإخراجها الى النور، وهنا أول شيء يجب على المدرس ان يفعله هو عدم سد هذا المورد، وفي الوقت ذاته أن لا يعطيه مجالا لإلغاء الآخر، من المهم إدراك أن الأطفال لا يجبرون على رسم منازل متشابهة أو ان يرسموا مثل الكبار، للاسف هناك عدد كبير من ستوديوهات الأطفال والمعارض التي تعاني من هذه المشكلة. وهذا يحدث بسبب عدم تفهم البعض بأن رسوم الاطفال تحمل قيمة مختلفة، وليس من الضروري ان تكون مثل رسوم الكبار، لذلك أرى أن مهمتي تنحصر في مساعدة هؤلاء الأطفال على اكتشاف قدراتهم الابداعية المتأصلة فيهم! وكذلك من المهم أن يشعروا أن هناك أشخاصا بحاجة لابداعاتهم.