كانت الحرب العالمية الثانية أثناء تلك الأحداث، قد انتهت لتوها، إلا أن الصراع حول النفوذ في منطقة الشام بين الحليفتين فرنسا وبريطانيا برز حتى قبيل ذلك، فقررت باريس التي ذاقت مرارة الاحتلال النازي الألماني، استعادة سيطرتها على دمشق وبيروت، والتحول مجددا من ضحية إلى جلاد!
عقب حادثة قصف دمشق، صرح سعد الله الجابري رئيس الوزراء السوري في ذلك الوقت بأن مديرية الصحة في دمشق أصدرت تقريرا رسميا جاء فيه "أن عدد القتلى من المدنيين في دمشق بلغ 600 شهيد، وأن الجرحى والمشوهين بلغوا 500 جريح، والذين أصيبوا بجراح يمكن معالجتها بلغوا 1000 جريح، وهناك 120 شخصا من الدرك بحكم المفقودين أما الخسائر المادية فهي جسيمة جدا".
بريطانيا كانت قررت مزاحمة فرنسا على نفوذها في الشام منذ مطلع عام 1944، وبحثت حكومتها فكرة إقامة "سوريا الكبرى" لتضم فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسوريا، وجعلها حليفا قويا على المدى الطويل.
الفرصة كانت سانحة، وكان نفوذ فرنسا في الشام ينحسر بسرعة، فقررت لندن الاستفادة من ذلك الوضع لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، وبدأت عمليا في الوقوف ضد نفوذ حليفتها ضد النازية.
على الأرض، أوكلت بريطانيا هذه المهمة إلى العقيد والتر فرانسيس ستيرلنغ، وهو مستعرب ورفيق لورانس العرب، وكانا دخلا معا إلى دمشق بعد الانتصار في الحرب العالمية الأولى، فيما عينت الجنرال لويس سبيرز وزيرا مفوضا لها في سوريا ولبنان.
نسج من يمكن وصفه بـ"لورانس سوريا" علاقات وثيقة مع السوريين وخاصة في وسط وشرق البلاد، وعدته باريس عميلا بريطانيا يعمل على تقويض نفوذها ويسعى لإبرام اتفاقية تحالف بين السوريين وبلاده، فقامت بوضعه تحت مراقبة لصيقة.
السوريون من جهتهم لم يكونوا في معظمهم ضد التحالف مع بريطانيا، وذلك لرغبتهم في التخلص من الفرنسيين في أسرع وقت، إلا أنهم كانوا يرتابون في فكرة "سوريا الكبرى" البريطانية.
في يونيو عام 1944، قبل يوم من بدء إنزال الحلفاء قواتهم في نورماندي عام، اجتمع الوزير البريطاني المفوض في سوريا ولبنان برئيس الوزراء السوري سعد الله الجابري ووزير الخارجية جميل مردم، ووعد بأن تدعم لندن أي اتحاد للعرب يرسمونه لأنفسهم، بشرط أن يساعدوا في طرد الفرنسيين، وأن يبرموا اتفاقية تحالف مع لندن، وأن يمنحوا الشركات البريطانية حقوقا حصرية لا حدود لها.
علم الفرنسيون بالاجتماع ومحتواه في الشهر التالي، وحذر ممثلو السلطات الفرنسية في الشام باريس من خطر انتفاضة محتملة في المنطقة، خاصة إذا قام البريطانيون بتسليحها. سبيرز كان وعد الوطنيين السوريين بنحو 7 آلاف بندقية وعدة مئات من المدافع الرشاشة إذا دعت الضرورة.
باريس ضغطت بشدة، وسربت إلى وسائل الإعلام المشروع البريطاني لإقامة دولة "سوريا الكبرى"، وطالبت لندن بتنجية إدوارد سبيرز من منصبه.
كل ذلك كان يجري قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وما كان من تشرشل إلا الاتفاق مع وزير خارجيته أنتوني إيدن على التكتم حول تلك الفضيحة وتهدئة خواطر الفرنسيين، وطرد سبيرز من منصبه ممثلا لبريطانيا في الشام.
وهكذا نجحت فرنسا، بنهاية عام 1944 في المحافظة على مصالحها في الشام، وتخلصت من مشاكسات بريطانيا لها، وحصلت على تأكيدات بريطانية على بقاء سوريا ولبنان في مجال مصالحها حصريا، إلا ان كل ذلك كان ظاهريا فقط كما أظهرت التطورات على الأرض لاحقا.
القوات الفرنسية وصلت إلى بيروت في 17 مايو 1945 لاستعادة نفوذها في الشام، وجرى قصف البرلمان السوري، ومحاولة اعتقال قادة الحكومة السورية في دمشق.
في تلك الأثناء، طالب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في 31 مايو 1945 بوقف إطلاق النار، ووصل الأمر بلندن إلى الضغط بشدة لحد تهديد قائد القوات البريطانية في بلاد الشام، الجنرال برنارد باجيت، بالتدخل العسكري المباشر، فتراجع الجنرال شارل ديغول.
قتل في القصف الفرنسي لعدة أحياء في دمشق ما يصل إلى 800 من المدنيين بحسب إحدى الروايات، وتم تدمير مبنى البرلمان السوري بالكامل، ولحقت أضرار كبيرة بالمدينة القديمة، ودخل البريطانيون دمشق في 31 مايو 1944، وفرضوا حظرا على تجول العسكريين الفرنسيين، وأجبروا على العودة إلى ثكناتهم.
إثر ذلك، رفض السوريون التعامل مع فرنسا بشكل تام، وامتنعوا عن التفاوض معها، وقال الرئيس السوري حينها شكري القوتلي في كلمة للشعب السوري بعد عمليات القصف الفرنسية: "جيل كامل من السوريين لن يقبل أبدا أن يسير فرنسي واحد على الأقل في شوارعنا".
رضخت الحكومة الفرنسية لإرادة السوريين في تلك الظروف الدولية المناسبة مع التنافس المحموم بين القوتين "الاستعماريتين" فرنسا وبريطانيا، فأعلنت باريس في 1 أغسطس نقل قيادة الجيش السوري إلى الجمهورية السورية، وحصلت البلاد على استقلالها باكتمال انسحاب القوات الفرنسية في 17 أبريل 1946.
المصدر: RT