فرنسا بعد وقت قصير من احتلاها الجزائر اعتبرت هذا البلد جزءا من مملكتها مثل النورماندي أو كورسيكا أو أي مقاطعة فرنسية أخرى. باريس نظرت إلى الجزائر في تلك الفترة الطويلة الممتدة من عام 1830 إلى عام 1962، كما لو أنه أرضا خالية من دون سكان.
طيلة أكثر من قرن وربع لم ينظر الفرنسيون إلى الجزائر على أنها مستعمرة كغيرها، بل عدته، متجاهلة كل حقائق التاريخ والجغرافيا وحتى المنطق، جزاء لا يتجزأ من ترابها الوطني.
جاء الفرنسيون إلى الجزائر بالحديد والنار وبأحدث الأسلحة. انتزعوا الأرض من أهلها، وقالوا هذه لنا، فيما تعاملوا مع الجزائريين على أنهم سكان أصليون مثلهم مثل سكان مستعمراتهم الأخرى، ولم يسمح لهم بأنه يحصلوا على الجنسية الفرنسية إلا بشرط تخليهم عن دينهم في إطار مساع فاشلة استمرت لعقود لتنصيرهم.
نكث الفرنسيون بجميع عهودهم، بما في ذلك الضمانات التي قدموها للداي حسين حين استسلم لهم في عام 1830، بحرمة الدين والحكم الذاتي للمسلمين واليهود، وفض منازعاتهم في محاكمهم الخاصة.
السلطات الاستعمارية الفرنسية لجأت إلى حل النزاعات بين الطوائف بواسطة المحاكم العسكرية، وفي الغالب كان حلها لصالح الأوروبيين.
سيطر المستعمرون الأوروبيون، فرنسيون وإسبان وإيطاليون وبرتغاليون ومالطيون وسويسريون على مقدرات الجزائر وأصبحوا أثرياء من خلال السيطرة على جميع الأنشطة الاقتصادية، فيما عاني السكان المسلمون من مجاعات كما حدث في عام 1868.
في تلك الأثناء حاول المبشرون المسيحيون، مستغلين ما صنعته ايدي الاستعمار، تحويل الجياع إلى المسيحية، ضاربين بعرض الحائط القانون والوعود. ورغم ذلك لم يفلحوا بسبب تمسك الجزائريين بهويهم وبدينهم.
حرم المستعمرون الفرنسيون الجزائريين من أبسط حقوقهم، ومورست ضدهم سياسة شديدة الشبه بالفصل العنصري في جنوب إفريقيا لاحقا.
الاختلاف الوحيد يتمثل في أن الجزائريين لم يتعرضوا للفصل العنصري للون بشرتهم، ولكن لانتمائهم الديني.
صودرت أراضيهم وقمعت انتفاضاتهم واحتجاجاتهم بالحديد والنار وقتلوا اختناقا بالدخان في الكهوف كما حدث في عام 1845، وبعد ذلك فرضت غرامات عليهم لرفضهم الظلم وثورتهم ضد المستعمر الدخيل.
فشل مشروع فرنسة الجزائر وضمها إلى الأبد، وقدم الجزائريون أكثر من مليون شهيد على مذبح الحرية في حرب تحرير لم تتوقف إلا بخروج فرنسا نهائيا في عام 1962.
رحل المستعمرون الفرنسيون وبقيت لغتهم حاجزا بين الجزائريين وجذورهم بعد أن أبعدت لعقود لغتهم العربية.
بعد نيل الجزائر لحريتها واستقلالها وعودتها إلى وسطها الطبيعي، حاولت البلاد إعادة إحياء اللغة العربية، وأصبحت اللغة الرسمية الأولى، فيما عادت اللغة الفرنسية إلى مكانها الطبيعي، لغة أجنبية، وهي أيضا بمثابة "آخر جندي فرنسي" في الجزائر.
هذه الجهود تواصلت من دون تردد، ودعمها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في يونيو 2022، بإصدار تعليمات تقضي بتدريس اللغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية.
الخطوة وهي الأولى في تاريخ البلاد، كان سبقها استطلاع رأي على مستوى البلاد، أظهرت نتائجه أن أكثر من 90 ٪ من الجزائريين يقفون مع الحد من اللغة الفرنسية وتوسيع استخدام اللغة الإنجليزية.
هذا القرار أزعج السلطات الفرنسية التي لا تزال تحاول الاحتفاظ برموز استعمارها وظلال هيمنتها الآفلة، إلا أن رحيل اللغة الفرنسية، آخر "جندي فرنسي" في هذا البلد، أمر بات، كما يبدو، لا رجعة عنه، وهو الآن رهين بالزمن فقط.
المصدر: RT