وسط أزمة هي الأخطر التي تواجهها البلاد في تاريخها الحديث على الأقل، يشكل منتصف مارس من كل عام مناسبة لإلقاء نظرة على تطوراتها، وأبرز مفاصلها السياسية والاقتصادية.
ومع دخول الأزمة عامها الحادي عشر، تعيش البلاد ترديا اقتصاديا غير مسبوق، أما سياسيا فيغيب حديث جدي عن بوادر حل سياسي، بعدما تراجع حتى الاهتمام الإعلامي بمباحثات جنيف التي أنهت جولتها الخامسة قبل أكثر من شهر دون بيان أو تحديد موعد لجولة قادمة لمباحثات كان يفترض أن تبحث دستور بلاد تستعد لانتخابات رئاسية هي الثانية خلال سنوات الأزمة.
من 50 إلى 4000
من 50 ليرة عام 2011 إلى مستويات قياسية أخرى تجاوز فيها سعر صرف الليرة حاجز 4000 ليرة، منذ أيام (حسب تسعيرة السوق السوداء، فالتسعيرة الرسمية ثابتة منذ أشهر عند سعر وسطي حول 1252) وهو ما عزز المخاوف من استمرار الانهيار مع ما يرافق ذلك من زيادة الفقر.
كل المؤشرات الاقتصادية تقول إن ثمة كارثة إنسانية في البلاد، فتجاوز سعر الصرف مستويات جديدة فاقم حالة العجز لدى كثير من الأسر عن تأمين حتى الغذاء، إذ ارتفعت الأسعار مجددا بينما بقيت الأجور شبه ثابتة، بل هي تآكلت خلال سنوات الأزمة ليصل وسطي الأجور إلى نحو 13 دولار انخفاضا من نحو 100 دولار قبل الأزمة.
الفجوة الكبيرة في الأسعار والأجور عكسته إحصاءات المكتب المركزي للإحصاء إذ تجاوز الرقم القياسي لأسعار المستهلك حاجز 2000 في المئة خلال الأزمة، (بلغ 2107 في شهر آب عام 2020 مقارنة بعام الأساس 2010).
وحسب هذا المؤشر تقول الباحثة رشا سيروب إن الدخل الحقيقي اليوم يفترض أن يكون أكثر من 630 ألف ليرة لمن كان راتبه 30 ألف ليرة عام 2010 وذلك حتى يحافظ على مستواه المعيشي ذاته، (وسطي الرواتب حاليا يقدر بنحو 50 ألف ليرة).
برنامج الغذاء العالمي رسم صورة قاتمة للوضع الإنساني في سوريا، وحسب البرنامج فقد انضم أكثر من 3 ملايين سوري إلى قائمة من يعانون انعداما في الأمن الغذائي خلال الأشهر الستة الماضية، ليصل عددهم الإجمالي إلى 12.4 مليون سوري.
ممثل البرنامج ومديره الإقليمي في سوريا، شون أوبراين، قال إن معظم الأسر السورية "لن تتمكن من البقاء على قيد الحياة دون مساعدة مستمرة" وإن المزيد من السوريين يدفعون "نحو الجوع والفقر".
80% فقراء
تقرير لنقابة عمال المصارف في دمشق، أظهر أن 80 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، وحسب ما نقلت صحيفة "الوطن" في حينه عن التقرير الذي تلاه رئيس النقابة أحمد حامد فإن "المجاعة باتت تلوح في الأفق".
وقدر التقرير خسائر الاقتصاد السوري حتى الآن (مطلع 2021) بأكثر من 530 مليار دولار أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2010.
مصادر الثروة في البلاد تعرضت في معظمها إما إلى التخريب أو خرجت عن سيطرة الحكومة.
أحدث الإحصاءات الحكومية بخصوص قطاع النفط أعلنها الوزير بسام طعمة الذي قدر (مطلع الشهر الماضي) خسائر القطاع منذ بداية الأزمة بنحو 91.5 مليار دولار.
وقد خرجت عن سيطرة الحكومة معظم الحقول النفطية التي كانت تؤمن حاجة البلاد من النفط والغاز، ما جعلها تعيش أزمات متتالية في تأمين تلك المشتقات النفطية.
كذلك تضررت الزراعة ما أدى إلى تراجع في الإنتاج، تجلى خصوصا بأزمة حادة في تأمين القمح، بعد خروج مساحات كبيرة من الأراضي التي تزرع القمح عن سيطرة الحكومة.
فاقم السوء عجز البلاد عن الاستيراد، نتيجة العقوبات الغربية، خاصة الأمريكية (قانون قيصر)، وتقول الحكومة السورية إن تلك "الإجراءات أحادية الجانب" أثرت على كل مرافق الحياة في البلاد.
"داعش" والقوى الدولية
طوال سنوات الأزمة، كانت البلاد على الصعيد السياسي والعسكري تشهد تبدلات نوعية في الميدان، مقابل مراوحة في المكان سياسيا، إذ تظهر أحدث الخرائط السورية توزعا متعددا للسيطرة فيها، حتى أنها صارت عبارة عن مناطق تخضع كل منها لقوة إقليمية أو دولية، التي ترفع أعلامها في مناطق البلاد.
ومنذ 15 مارس 2011 وحتى اليوم، هُجر وقتل ملايين السوريين، من جميع الأطراف، وإن كانت الإحصاءات الدقيقة غير متوفرة بعد، إلا أن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى نزوح أكثر من 5.6 ملايين سوري، أما إحصاءات قتلى السنوات تلك فما زالت تخضع للتجاذبات.
في مارس عام 2011 شهدت العاصمة السورية دمشق مظاهرة كانت الأولى فيها منذ عقود التي تردد هتافات معارضة، ثم انتقلت التظاهرات إلى مدن أخرى.
ووسط اتهامات متبادلة بالبدء بالعنف المسلح، تحولت الأزمة في البلاد بعد أشهر إلى صراع مسلح، وإن بقيت التظاهرات مستمرة.
وشهدت البلاد تشكيل قوى سياسية معارضة مثل "المجلس الوطني السوري" (أكتوبر عام 2011) وبعد ذلك بأيام تم الإعلان عن تشكيل "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي"، إلا أن قوى أخرى ذات طابع متطرف كانت تتهيأ لتأخذ دورا أكبر في البلاد، وخاصة "جبهة النصرة" التي أعلنت عن نفسها أواخر 2011 قبل أن تبدل اسمها أكثر من مرة (هيئة تحرير الشام حاليا)، وكانت مسؤولة عن أوائل أعمال العنف الإرهابية.
ومنذ العام التالي بدأت عدد من المناطق تخرج عن سيطرة الحكومة، حتى أن دمشق ذاتها كانت مهددة فيما عرفت بـ "معركة دمشق" عام 2012.
عام 2013 دخل "حزب الله" اللبناني، طرفا في الصراع، إلى جانب القوات الحكومية.
كانت "الرقة" قد خرجت من السيطرة الحكومية في ذلك العام، وقبل أن يسيطر عليها "داعش" بشكل كامل، وبدأ منذ 2014 يحتل مساحات واسعة في سوريا، ويشكل خطرا حقيقيا فيها، قبل أن تتمكن "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) من استعادة المدينة من "داعش" وهو ما شكل بداية النهاية للتنظيم.
مبادرات شراء الوقت
تحولت البلاد مسرحا لعدد من القوى الإقليمية والدولية، التي كانت تخوض صراعا في سوريا، توازيا مع "مبادرات سياسية" لم تسفر عن أي نتيجة حتى الآن، وهو ما دفع كثيرين لوصفها بأنها محاولات من الأطراف المتصارعة لكسب الوقت بانتظار حسم ميداني على الأرض، وهو ما تجلى حتى الآن بتوزع مراكز القوى في سوريا بين تلك القوى.
ومنذ البيان الذي عرف ببيان جنيف الأول عام 2012، (كان ينص على عملية انتقالية سورية) صار اسم العاصمة السويسرية ذلك عنوانا لجولات ماراثونية استمرت سنوات دون أن تخرج بأي نتيجة، رغم أن أطراف التفاوض كانت تعلن أن مرجعيتها هو القرار 2254 الذي تبناه مجلس الأمن في ديسمبر عام 2015، والذي شدد منذ إصداره على الدعوة لمفاوضات "حول عملية انتقال سياسي على نحو عاجل"
التبدلات العميقة في الجغرافيا السورية لم تعكس تبدلا سياسيا يذكر، بقيت الحياة السياسية تحافظ على "ثوابتها" رغم تعديل الدستور، وإقرار قوانين للإعلام، والأحزاب أتاحت الترخيص لعدد من الأحزاب السياسية، استنادا إلى القانون إلا أن المعارضة بقيت تصف تلك التغييرات بأنها شكلية وبأن الأحزاب الجديدة تدور في فلك السلطة.
الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2014 كانت التعددية الأولى في البلاد منذ 1963، وشارك فيها اثنين من المرشحين إلى جانب الرئيس بشار الأسد، وقد شكك كثيرون بأنها تعددية، خاصة بعدما أظهرت النتائج فوز الاسد بأكثر من 73 في المئة من الأصوات.
مرشحون
واليوم تستعد البلاد لانتخابات رئاسية من المقرر أن يدعو إليها مجلس الشعب منتصف الشهر القادم، دون أن يعلن أي مرشح حتى الآن نيته الترشح، ووسط حالة من الترقب باتجاه المجهول إذ لا تطرح أي مبادرة، وسط ترد متواصل في واقع السوريين المعيشي.
أسامة يونس ـ دمشق