قضى الرئيس الراحل المعروف بخطاباته الحماسية، وبكوفيته الفلسطينية التي كان يضعها على رأسه، على شكل خارطة فلسطين، يوم 11 نوفمبر من العام 2004، بعد تعرضه لمرض غامض أصابه خلال حصاره المشدد من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مقر المقاطعة بمدينة رام الله، وذلك بعد اتهامه من قبل إسرائيل، وبمساندة أمريكية، بالوقوف وراء تفجير "انتفاضة الأقصى" عام 2000، وهي الانتفاضة التي جاءت كرد فلسطيني على اقتحام أرئيل شارون الذي قاد الحرب على عرفات فيما بعد المسجد الأقصى المبارك.
يشار إلى أن تلك الزيارة لشارون، سمح بها رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك، بعد فشل محادثات "كامب ديفيد 2"، والتي عقدت في العام 2000، نتيجة التعنت الإسرائيلي وحرص عرفات على عدم التفريط بالحقوق الفلسطينية.
وقد لجأت إسرائيل إلى فرض الحصار على المقاطعة، التي دمرت أجزاء كبيرة منها، حيث طال التدمير بالقصف والمتفجرات مكتب الرئيس الراحل، ووثقت عدسات التلفزة العديد من عمليات اقتحام وحصار المقاطعة، وأعنفها خلال شن عملية "السور الواقي" في الضفة عام 2002، والتي قضى خلالها مئات الشهداء، بعضهم من الحرس الخاص بالرئيس عرفات، أثناء التصدي لاقتحام مدينة رام الله.
وقبل أيام من وفاة الرئيس عرفات في المشفى الفرنسي، أصيب بحالة إعياء شديد، استدعيت على إثرها فرق طبية من عدة دول عربية، لكن تقرر في ظل فشل علاجه نقله عبر مروحية من مقر المقاطعة إلى الأردن، بعد أن سمحت بذلك إسرائيل، ومن هناك نقل بطائرة إسعاف فرنسية إلى المشفى العسكري.
وقضى الرئيس الراحل بعد أيام من وصوله للمشفى، حيث لم يتمكن الأطباء من علاجه، ومن اكتشاف ما أصاب جسده من مرض، يعتقد أنه بسبب تسمم، لم يكشف طبيعته بعد.
وأقيمت مراسم وداع عسكرية رسمية للرئيس الراحل عرفات في فرنسا، قبل نقله إلى العاصمة المصرية القاهرة، حيث أقيمت له جنازة شارك فيها الرؤساء والزعماء العرب، ومن ثم نقل عبر طائرات مروحية مصرية لمقر المقاطعة، حيث دفن هناك، وسط مشاركة شعبية منقطعة النظير.
وشكلت لجنة تحقيق فلسطينية لمعرفة السبب وراء وفاة أبو عمار، وأجرت اللجنة العديد من جلسات الاستماع والاستجواب لأشخاص قاموا بزيارته، كما قامت اللجنة بفحص التقارير الطبية، لكن لغاية اللحظة لم تقم بنشر النتائج.
ويؤكد الفلسطينيون أن رئيسهم الراحل قتل مسموما، من خلال مخطط لأجهزة الأمن الإسرائيلية، حيث جرى استخراج رفاته من قبره في نوفمبر من العام 2012، وأخذت منه عينات من قبل فريق طبي روسي وسويسري، للتحقق من تعرضه للتسمم عبر مادة "البولونيوم"، بعد أن كشف تقرير صحفي بوجود المادة على ملابسه، بعد استعانتها بفريق طبي سويسري متخصص.
والبولونيوم مادة قابلة للذوبان شديدة السمية بكميات ضئيلة سواء عن طريق الاستنشاق أو الابتلاع، وهي على قدر بالغ من الخطورة يتطلب التعامل معها تجهيزات خاصة وآليات صارمة.
والمعروف أن عرفات تعرض للعديد من محاولات الاغتيال الإسرائيلية، سواء في لبنان أو في تونس، التي أقام بها بعد خروج القوات الفلسطينية من لبنان.
ولد عرفات في القدس في الرابع من أغسطس عام 1929، واسمه بالكامل محمد ياسر عبد الرؤوف داوود سليمان عرفات القدوة الحسيني، وتلقى تعليمه في القاهرة، وشارك بصفته ضابط احتياط في الجيش المصري في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في 1956.
كما شارك الراحل مع مجموعة من الوطنيين الفلسطينيين في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في الخمسينيات، وأصبح ناطقا رسميا باسمها في 1968، وانتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في شباط 1969، بعد أن شغل المنصب قبل ذلك أحمد الشقيري ويحيى حمودة.
وألقى عام 1974 كلمة باسم الشعب الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وحينها قال جملته الشهيرة: "جئتكم حاملا بندقية الثائر بيد وغصن زيتون باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".
وقاد الرئيس عرفات القوات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982، كما قاد معارك الصمود خلال الحصار الذي ضربته القوات الإسرائيلية حول بيروت طيلة 88 يوما انتهت باتفاق دولي يقضي بخروج المقاتلين الفلسطينيين من المدينة.
وعقب إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988، أطلق في الثالث عشر والرابع عشر من ديسمبر للعام ذاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، حيث انتقلت الجمعية العامة وقتها إلى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة سفر إلى نيويورك، وأسست هذه المبادرة لقرار الإدارة الأمريكية برئاسة رونالد ريغان في الـ16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من 30 مارس 1989.
وقع ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، عام 1993، اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في البيت الأبيض، في الثالث عشر من سبتمبر، حيث عاد بعدها ياسر عرفات بموجبه على رأس كادر منظمة التحرير إلى فلسطين، واضعا بذلك الخطوة الأولى في مسيرة تحقيق الحلم الفلسطيني في العودة والاستقلال.
وفي العشرين من يناير 1996، انتخب ياسر عرفات رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في انتخابات عامة، وبدأت منذ ذلك الوقت مسيرة بناء أسس الدولة الفلسطينية.
واليوم، ورغم مرور كل تلك السنوات على رحيل عرفات، يرى كثير من الفلسطينيين أن وفاته تركت فراغا في الساحة الفلسطينية، بل ويذهب البعض أن حالة الانقسام الفلسطيني، وسيطرة حماس على قطاع غزة ما كانت لتتم لو كان موجودا بفضل شخصيته الكاريزمية، وقدرته على نسج خيوط تواصل مع الجميع، سواء داخل فتح أو مع التنظيمات الفلسطينية الأخرى، مهما بلغت الخلافات.
المصدر: وكالات