يعود النقاش حول الأناشيد الوطنية العربية إلى الظهور من حين لآخر، فطرح نفسه في الآونة الأخيرة على ضوء النشيد الموريتاني الجديد الذي لحّنه الموسيقار المصري راجح داوود. ويحتدم النقاش في حالات كهذه بين مؤيد لمشاركة عرب "من غير أبناء الدولة" في تأليف نشيدها ومعارض لهذه الفكرة.. والحديث هنا لا يدور عن النشيد الموريتاني دونا عن غيره والأمثلة كثيرة.
يمثل النشيد الوطني العراقي، السابق والحالي على حد سواء، حالة المشاركة العربية في صياغة إحدى أهم بطاقات التعريف بالدولة.. بالوطن. فالنشيد السابق من ألحان الموسيقار اللبناني وليد غلميّة، فيما الحالي "موطني" من كلمات الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وألحان الأخوين فليفل من لبنان.
لا يشكل النشيد الوطني العراقي "موطني" حالة استثنائية بين نظرائه العرب، إلا أنه يعد مثالا صارخا إذ يطرح تساؤلا وبقوّة.. هل عجزت بلاد الرافدين، موطن أساطين الكلمة وعباقرة اللحن، عن اعتماد نشيد وطني عراقي خالص؟ أم هي رسالة من العراقيين لأشقائهم بهدف تجسيد الوحدة العربية، وإن كان عبر نشيد البلاد الوطني.. ليكون عربيا يحاكي أحلام العرب بالوحدة؟
قد يكون الأمر انعكاسا لتبادل ثقافي عشوائي غير متفق عليه. فإذا أعطت فلسطين العراق نشيده الرسمي، فإن العراق رد بأن أعطى فلسطين نشيدها غير الرسمي، كما يصفه البعض، وذلك بموسيقى أغنية "علّي الكوفية" التي تعتبر لحن الأغنية الفلسطينية الأشهر.. علما أنه من إبداعات الموسيقار العراقي علي بدر.
وبالعودة إلى الأخوين أحمد ومحمد فليفل، اللذين أبدعا العشرات من الأناشيد الوطنية والحماسية، تجاوزت شهرتها حدود بلدهما لبنان، فإن النشيد الوطني السوري "حُماة الديار" من ألحان الأخوين فليفل. ولكن أن يكتب لبناني نشيد سوريا الوطني.. قد يبدو ذلك أمرا طبيعيا انطلاقا من مدى التقارب في شتى مناحي الحياة بين السوريين واللبنانيين، علاوة على الرابط التاريخي - الاجتماعي الذي يجمع الشعبين في إطار بلاد الشام.. أي سوريا ولبنان.
وكذلك هو الرابط القوي بين الشعبين الأردني والفلسطيني. فكاتب كلمات نشيد المملكة على الضفة الشرقية لنهر الأردن مواطن من ضفته الغربية، وهو الشاعر عبد المنعم الرفاعي. أما النشيد الوطني الفلسطيني فمن ألحان الموسيقار المصري علي اسماعيل.. ولمصر حصّة الأسد في تأليف الأناشيد الوطنية للدول العربية. فللمبدعين المصريين حضور واضح بالأناشيد الوطنية العربية لا سيّما في دول شمال إفريقيا.
فالنشيد الليبي من ألحان الفنان المصري الشهير، "موسيقار الأجيال" محمد عبد الوهاب، وهو من كلمات الشاعر التونسي البشير العربي، والنشيد الجزائري من تلحين الموسيقار المصري محمد فوزي، بالإضافة إلى الفنان المصري راجح داوود، واضع لحن النشيد الموريتاني كما ورد أعلاه.
ويُضاف إلى الأناشيد الوطنية لدول عربية في إفريقيا، إسهام فنان مصري وضع لحن نشيد دولة الإمارات العربية المتحدة وهو الموسيقار سعد عبد الوهاب، علما أن الإبداع العربي غير الخليجي في الأناشيد الوطنية لدول خليجية لم يقتصر على النشيد الإماراتي فحسب.. إذ إن كاتب كلمات النشيد البحريني هو الشاعر الفلسطيني محمد صدقي عيّاش.
وبعيدا عن الأناشيد الوطنية لهذه الدولة العربية أو تلك.. ثمة أعمال فنية حاولت أن تعكس حالة الوحدة العربية، وربما أبرزها "بساط الريح" الذي يرى فيه البعض نشيدا يعبّر عن أمنية توحد شعوب العالم العربي من المحيط إلى الخليج وتحاكي تطلعاتها.
من الطبيعي أن يكون مؤلف الأوبريت الأشهر، الذي يدغدغ المشاعر بالوحدة العربية، هو فنان بامتياز وعربي بامتياز أيضا.. جمعت سيرته الذاتية عناوين لبلدان عربية. فهو الموسيقار، الأمير السوري - اللبناني فريد الأطرش، الذي اشتهر كأحد أبرز الفنانين المصريين.. علما أن جذوره يمنية، كما صرّح حفيده فيصل الأطرش في لقاء تلفزيوني مشيرا إلى أن العائلة من "أمراء بني معن في اليمن"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن انطلاقة "موسيقار الأزمان" كانت فلسطينية بأغنية "يا ريتني طير لاطير حواليك".. وهي من كلمات وألحان الموسيقار الفلسطيني يحيى اللبابيدي.
ولا بأس من فتح قوس هنا وتسليط شيء من الضوء على هذه الأغنية، التي تعتبر الخطوة الحقيقية في عالم الفن لأحد ألمع نجوم الموسيقى العرب.
تفيد حكاية هذه الأغنية بأنه تم تسجيلها بصوت الفنان، الصاعد في حينه، فريد الأطرش مع أوركسترا الإذاعة الفلسطينية "هنا القدس"، عام 1938، وكان هذا ثاني تسجيل لها. وقد أُعيد تسجيل الأغنية بسبب التحفظ على كلماتها الأصلية، وذلك في زمن الفن الجميل حين كان الفنانون يتمتعون بمسؤولية أكبر ويراجعون مفردات محتوى أغانيهم. وقد تم الاتفاق على أن كلمات الأغنية، في نسختها الأولى بصوت المطرب اللبناني إيليا بيضا، خادشة للحياء.. علما أنه تعذّر إعادة تسجيلها بصوت بيضا مجددا لتواجده آنذاك في الولايات المتحدة فمُنحت الفرصة لـ "وحيد".
وبالعودة إلى أوبريت "بساط الريح"، الذي جاء مخاطبا رغبة العرب بوحدة حقيقية تجمع شملهم ومستوحى من روح أمنية طال انتظار تحقيقها، الملفت أن هذا الأوبريت كان جزءا من فيلم يحمل عنوان "آخر كدبه (كذبة)".. وعموما هذه معلومة على هامش المادة قد لا تستوجب الاهتمام.
هناك من يرى أن فكرة الوحدة العربية لا تتعدى الشعارات الرنانة. وفي الحقيقة ثمة واقعة تصب في صالح وجهة النظر هذه. فقد انتشر قبل سنوات عبر مواقع الإنترنت لقاء أجري مع الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب وكان بعنوان "اللاجئ الفلسطيني.. حين جرّب أن يكتب نشيد الوحدة".
أجريت مسابقة لاختيار نشيد الوحدة وذلك على خلفية الوحدة بين مصر وسوريا. شارك العديد من كُتّاب القصائد والموسيقيين في هذه المسابقة، وكان من بينهم الشاعر الفلسطيني، اللاجئ إلى سوريا، يوسف الخطيب، والملحنان اللبنانيان أحمد ومحمد فليفل. قُدم النشيد للمسابقة وتفوق على الأناشيد المنافسة ولكن.. وهنا ما قاله الشاعر: "فاز النشيد بالجائزة الأولى بدون منازع لدولة الوحدة، وإنما أسقط النشيد لأنه لا المؤلف من رعايا الجمهورية العربية المتحدة، الذي هو أنا اللاجئ الفلسطيني يوسف الخطيب، ولا الملحن الذي هو الأخوان فليفل اللبنانيان".
من الطبيعي أن يُنظر إلى الوحدة بين مصر وسوريا في حينه على أنها نواة لوحدة عربية في مستقبل منظور. إلا أن تفاعل القائمين على المسابقة آنفة الذكر برفضهم النشيد الفائز بناء على السبب المذكور، لا يبدو أنه يحمل في جوهره روح الوحدة العربية، ما جعل الكثيرين يستشعرون خيبة الأمل.. بمن فيهم من تعرفوا على قصة "نشيد الوحدة" بعد سنوات من فشلها وفي ظل حال العرب المتردي من ساعة إلى ساعة.. ما جعل خيبة الأمل هذه مطعّمة بنكهة إحباط من الطراز الرفيع.
ولكن.. المتشائمون ليسوا وحدهم من يعبرون عن آرائهم بشأن الوحدة العربية، إذ هناك من لا يزال ينظر إلى الواقع العربي بأمل وتفاؤل، ويؤمن أن الوحدة بين شعوبها مصير محتوم لا مفر منه، ويشير إلى نشيد بلد عربي ألّفه عربي ثان ولحنه ثالث وكأنه يرمق المتشائم ولسان حاله يقول: "هي مسألة وقت لا أكثر".. علما أنه، وكما تفيد مقولة شائعة في روسيا.. المتشائم هو المتفائل المُلمّ بالمعلومة.
علاء عمر