لست من محبي هذا النوع من الموسيقى.. وإن كنت أستمع من حين لآخر إلى موسيقى الجاز الناعم بأداء أوركسترا بوب جيمس. أما الجاز فإنني لا أستسيغه إلا بأداء حي في ناد ليلي، مصحوبا بسلطة فواكه.. ففي هذه الحالة فقط أستمتع بإبداعات العازفين وهم يستعرضون مواهبهم في الارتجال، فترى.. والأهم أن ترى لا أن تسمع ولادة جمل موسيقية لن تتكرر واحدة تلو الأخرى، نابعة من انفعالات العازف وهو يحاول أن يوظف قدراته في فن التناغم ليخلق حالة من الاضطراب اللذيذ.. ينسجم بسلاسة متناهية مع طعم الفراولة ونكهة الأناناس.
بدأ الحفل قبل أن تصدح الموسيقى.. فبمجرد دخول "بيت الموسيقى" تجد نفسك وكأنك في دار لعرض الأزياء يعبر عن محبي الجاز الذين غالباً ما يُنسبون إلى النخبة، وهو وصف غير لائق إلا أنه بات يفرض نفسه على هؤلاء، ما يدفعهم للظهور بما يتناسب مع هذا الوصف.
استهل مايسترو أوركسترا "غلين ميلر"، عازف البيانو الهولندي، ويل سالدين، الحفل باستحضار ذكرى فرقة "ألكسندروف" العسكرية الروسية وقائدها الفريق، فاليري خليلوف.. وبدا ذلك طبيعيا في حفل تحييه فرقة الموسيقار "غلين ميلر" الذي كان يحمل رتبة رائد، ولقي حتفه في حادث تحطم طائرة متجهة من الولايات المتحدة إلى فرنسا لإحياء حفل موسيقي للجنود الأمريكيين العام 1944.
عزفت الفرقة ألحانا من إبداعات غلين ميلر، وربما أشهرها الرائعة الخالدة In The Mood، وهي من الألحان التي سمعها الجميع دون يعرف اسم كاتبها.. ويكفي مطلعها لوضع غلين ميلر ضمن أوائل الملحنين في العالم، إذ لا تمل سماعها حتى لو كانت المقطوعة الموسيقية تبدأ وتنتهي بجملة واحدة، تتكرر دون توقف فلا تعرف أولها من آخرها.. وربما أحد قراء هذه المادة يستخدم ذاك اللحن كرنة لهاتفه الجوال وهو لا يعرف اسم ملحنها.
ومن الألحان الرائعة التي تمتع بها حضور الحفل كان واحدا من أشهر ألحانه واسعة الانتشار حتى لدى غير المهتمين بالجاز وبالموسيقى أصلا.. وهي مقطوعة Moonlight Serenade.
توالت المقطوعات الموسيقية بأداء "غلين ميلر" الذي كان أقرب في هذا الحفل إلى أداء أوركسترا ماكس غريغر، أي أنه لم يكن في بعض الأحيان موسيقى جاز بالقالب الكلاسيكي لهذا النوع من الموسيقى.. فطعمت الأوركسترا الأمسية بموسيقى الأمريكيين، هنري مانتشيني، وبني غودمان، ومواطنهما الروسي الأصل، جورج غيرشوين.. كما أدت الأوركسترا ألحانا روسية مشهورة ألهبت حماس الجمهور الذي تفاعل مع روائع فن الجاز ومهارة الارتجال وجمال الأصوات.
ترى.. هل كان يعرف تشارلز الذي كان يجتمع في بيته الموسيقيون للعزف والغناء، كما تقول الأسطورة، بأنه سيعطي لهذه الموسيقى اسمه مع تحوير بسيط.. فتتحول من تشارلز إلى جاز؟ ولكن هكذا هو الجاز وموسيقاه التي تحوّل أصوات الآلات إلى راقصات يتمايلن على سلم الموسيقى من أعلاه إلى أسفله في لحظة.. هي لحظة طويلة استمرت ساعتين قصيرتين مع موسيقيين ومغنين يتقدمهم عازف البيانو ويل سالدين.. قائد أوركسترا "غلين ميلر" لموسيقى الجاز.
لم أكن بحاجة إلى سلطة الفواكه مع "غلين ميلر" في "بيت الموسيقى".. فقد شكلت الآلات الموسيقية مع أصوات المغنين كوكتيلا استثنائيا، يروي عطش الراغبين بالاستمتاع بالجاز.. الذي تكتشف فجأة أنه من تجليات موسيقى ربما كانت ستشغل مكانة متقدمة على قائمة أنواع الموسيقى المفضلة لديك.. لو أعطيتها الفرصة.
علاء عمر