وفي حديث إلى برنامج "قصارى القول" الذي يعرض عبر RT يتحدث ترويفتسيف، أحد أبرز الخبراء بشؤون الشرق الأوسط والبلدان العربية، ضمن سلسلة من أربع حلقات عن كواليس علاقة موسكو السوفيتية بالأحزاب الشيوعية والثورية العربية.
وفي الإعلان الترويجي للحلقة، يقول ترويفتسيف: "قال لي عزيز محمد (سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سابقا) أثناء اللقاء معه في موسكو، إن لدى الاتحاد السوفيتي آمالا بأن (الرئيس العراقي الراحل) صدام حسين يمكن أن يتحول إلى كاسترو ثان في الشرق الأوسط".
المؤسف أن المستعرب البارز قسطنطين ترويفتسيف رحل عن عالمنا قبل أن يشاهد بث حلقات أحاديث عن الأحزاب العربية على شاشة أر تي، إذ وافته المنية في يناير الماضي وقد رثاه حينها الزميل سلام مسافر في مقال مطول:
كنا سنحتفل بعيد ميلاده الثمانين في تموز/ يوليو عام 2023؛ لكن الموت عاجل أحد آخر المستعربين الكبار في روسيا والاتحاد السوفيتي السابق. ليترك فراغا لا يعوض في عالم الاستشراق ودراسات الشرق الأوسط، ليس لأن الراحل أتقن اللغة العربية، وتوله بالثقافة العربية فقط؛ بل لأن الدكتور ترويفتسيف؛ أفنى عمره في دراسات معمقة عن الحركات السياسية العربية، وعلّم مئات الشيوعيين واليساريين العرب الماركسية- اللينينية؛ متنقلا بين اليمن والعراق ولبنان وسوريا؛ والتقى معظم قادة الحركات الثورية العربية وشخصيات عالمية ونشر مقابلات صحفية مع أبرزهم.
عكف المستعرب اللامع على إعداد دراسات وألف كتبا ذات قيمة تاريخية وبحثية مميزة عن العالم العربي.
عاش الراحل قلقا فكريا متواصلا على مدى سنوات انخراطه في العمل الأيديولوجي والسياسي، وكان من أوائل من ترك صفوف الحزب الشيوعي السوفيتي عشية انفراط عقد الدولة العظمى، وساهم بحماس في مقاومة المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها سدنة الحزب ضد آخر رئيس سوفيتيي، ميخائيل غورباتشوف، وأودت بالنظام ومزقت الدولة الاتحادية، واوصلت لصوص المال العام الى سدة الحكم، وخلقت طبقة الأوليغارشية التي تعيث بروسيا فسادا.
لم يحصل ترويفتسيف على حصة ولو صغيرة من خصخصة ممتلكات الدولة السوفيتية على يد حفنة من الأفاقين، لأن المستعرب والباحث المتمكن، دفعه قلقه الدائم للبحث عن الحق والحقيقة لأن يتحول أيديولوجيا عن النظام الشمولي، وليس البحث عن مكاسب مالية أو منافع خاصة.ولد قسطنطين ميخائيلوفيتش ترويفتسيف في 29 تموز/ يوليو 1943. بمدينة موسكو لأسرة روسية عريقة؛ وتخرج في معهد اللغات الشرقية عام 1967، السنة التي شهدت تحولات عاصفة في المنطقة العربية إثر هزيمة حزيران.
وكان لشهر تموز/ يوليو وقع خاص في وجدان الشاب اليافع ذي السحنة الأرستقراطية.
فقد سُر ترويفتسيف لسقوط الملكية في العراق شهر تموز من العام 1958؛ لاعتبارات؛ أقلها سياسية، وحقيقتها وجدانية.
إذ تعرف قسطنطين على فتاة عراقية، شاركت مع وفد الشيوعيين العراقيين، في مهرجان موسكو العالمي للشبيبة عام 1957، ووقع في غرامها، وسحره صوت غنائها الشجي وسمرة الوجه الطفولي البصري، وعاش الفتيان؛ قصة حب على مدى أيام المهرجان، سمع خلالها الكثير عن العراق، نخيلا وأنهارا، وبشرا وعادات وتقاليد من تلك " الرفيقة" الناعمة التي كانت تخفي حتى مع "الحبيب الأممي" اسمها الحقيقي، التزاما بأوامر حزب فهد وسلام عادل.
تحرك قطار العائدين من مهرجان الشبيبة، وترك الرحيل في قلب العاشق الروسي لوعة، تفجرت عن حب وعشق غامرين للغة العربية، قادته الى معهد اللغات الشرقية.يتذكر ترويفتسيف ملامح وجه الفتاة البصرية، ويجهل اسمها الحقيقي، لكنه قدّر أنها فرحت حتما بسقوط الملكية في العراق، وأنها في رحلة العودة الطويلة، بوثائق مزورة، عانت مع رفاقها من ملاحقة التحريات الجنائية العراقية، التي صارت منشوراتها، مادة لأبحاث الدكتور ترويفتسيف عن الحركة الشيوعية في أرض السواد.
أحب الراحل" الچاي" على الطريقة العراقية، وكان يستغرق في الضحك حين يردد بعض العبارات باللهجتين العربية واليمنية؛ لأنه كان على معرفة واسعة بشعاب البلدين وتلافيف ساسته وثورييه المعقدة والملطخة بالحديد والعنف والدم.رحل قسطنطين ترويفتسيف؛ قبل أن يشاهد سلسلة مقابلات توثيقية سجلناها معه عن كواليس علاقة موسكو مع الأحزاب الشيوعية والثورية شرق المتوسط، وكنا نعتزم عرضها بمناسبة بلوغه العقد الثامن.
عاش قسطنطين ترويفتسيف سنوات حافلة بأحداث جسام، سلط عليها ضوء معارفه الفلسفية والاجتماعية والسياسية.
ترسخ العالم العربي في وجدان الراحل، وجها لوحته شموس البصرة، ولهجة مست شغاف القلب.
المصدر: RT