موسكو وأبوظبي.. ملامح التنسيق الاستراتيجي
جاءت زيارة الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ومهندس السياسة الخارجية الإماراتية، لموسكو قبل أيام، لتتوج مسارا متصاعدا في علاقات استراتيجية وآفاق واعدة بين روسيا ودولة الإمارات.
ولقد كانت كلمة الرئيس فلاديمير بوتين الترحيبية بالشيخ محمد لافتة ومعبرة عن مستوى العلاقات، حيث أكد بوتين أن الزيارة تعتبر فرصة للتباحث مع "الأصدقاء"، مشددا على العلاقات المهمة جدا التي تربط موسكو وأبوظبي، وهي علاقات تتجاوز الاقتصاد والأعمال لتصل إلى السياسة، حيث تدل الزيارات المتبادلة، وعلى أعلى المستويات، على درجة من التنسيق والتشارور الاستراتيجي بين روسيا الطامحة للعودة بقوة إلى المسرح الدولي، ودولة الإمارات التي بدأت في السنوات الأخيرة تستفيد من فائض القوة الناعمة لديها لتضع بصمتها الخاصة وليكون لها حضورها على مسرح صناعة الأحداث في العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تعيش أحداثا دراماتيكية متسارعة وتمر بمرحلة مخاض سيكون لها ما بعدها...
تشكل تجربة دولة الإمارات نموذجا استثنائيا في عالم عربي عاش على مدى العقود الماضية سلسلة من الخيبات والتجارب الوحدوية والتنموية الفاشلة، فهذا البلد استطاع آباؤه المؤسسون خلق وحدة تكاملية بين سبع إمارات، وبعد ذلك حولوه من صحراء جرداء إلى نموذج تنموي استثنائي، وأصبحت مدنه "أيقونات نجاح" يسعى الشرق والغرب إلى تقليدها، ولعل من المعلوم بداهة أن دولة الإمارات ارتبطت تاريخيا بعلاقات استثنائية مع الغرب وخاصة مع المملكة المتحدة، المستعمر السابق، ثم بعد ذلك الولايات المتحدة التي تحولت العلاقات معها من مجرد علاقات متينة إلى علاقات استراتيجية، يحرص الإماراتيون أن يكون فيها مستوى معقول من الندية والتكامل، فبقدر ما تشكل واشنطن حليفا قويا يمكن الاعتماد على قوته العسكرية وحمايته السياسية في إقليم مضطرب ووسط جوار صعب، خاصة مع إيران التي لا تزال تحتل الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، إلا أن أبوظبي، أيضا، في المقابل تشكل بالنسبة لواشنطن حليفا عربيا ومسلما مهما، لديه فائض من "وسائل القوة الناعمة"، بدءا من النفط وانتهاء بالاعلام والمنتج الثفاقي والفكري والتأثير الهائل في صناعة وتشكيل العقول في منطقة شرق أوسطية تحاول مجموعات الإرهاب وإيديولوجيا الكراهية أن تهيمن عليها..
وبالرغم من هذه العلاقات الاستراتيجية مع الغرب، إلا أن دولة الإمارات اتجهت في السنوات الأخيرة إلى اعتماد مقاربة سياسية تقوم على مبدأ التمدد الاستراتيجي عبر خلق شراكات وعلاقات مع مختلف القوى المؤثرة في العالم، وهكذا دخلت العلاقات مع قوى الشرق الصاعدة، ككوريا الجنوبية والصين والهند، طورا جديدا، وبدا أن مهندس السياسة الخارجية الإماراتية الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، عازم على استثمار رصيد بلاده الضخم من "القوة الناعمة" في صنع حضور سياسي وشراكات اقتصادية مع العالم أجمع، ولقد كانت العلاقات الاقتصادية هي محور التقارب مع دول ككوريا الجنوبية والصين، وقد شكلت زيارة الشيخ محمد بن زايد قبل أشهر لبكين نقطة تحول استراتيجية في علاقات البلدين، وجاء الإعلان عن إنشاء صندوق استثماري إماراتي - صيني بعشرة مليارات دولار ليتوج مسار تعاون متصاعد بين أبوظبي وبكين.
في هذا السياق شهدت الفترة الماضية إبحارا إماراتيا متسارعا نحو روسيا، وأظهرت زيارات الشيخ محمد بن زايد لموسكو خلال الأشهر الماضية، ومن بينها الزيارة الأخيرة، أن محور أبوظبي- موسكو بدأ ينشط بقوة، متجاوزا بمراحل مجرد التعاون الاقتصادي، وحتى العسكري، نحو "آفاق علاقات استراتيجية" تضمن التنسيق على أعلى المستويات في الملفات الإقليمية الشائكة، ولعل المراقبين السياسيين يدركون أن أبوظبي أصبحت حريصة على "عدم رمي كل البيض في السلة الأمريكية"، خصوصا مع وجود إدارة أمريكية تميل إلى الانكفاء والانسحاب التدريجي من قضايا الشرق الأوسط، وفي ظل تحولات إقليمية عاصفة، فإيران، الجار الصعب، تتحفز بشكل هستيري لشغل الفراغ الأمريكي في المنطقة، والأتراك في ظل قيادة أردوغان طامحون إلى إحياء عهد الإمبراطورية العثمانية، وقوى الإرهاب والتطرف تعيث في الشرق الأوسط الفساد، وكل هذه الأمور مجتمعة تدفع الإماراتيين إلى توسيع قاعدة الحلفاء وصناعة شراكات مميزة مع مختلف قوى العالم..
محمد سعدن الطالب