موسكو تفرد جناحيها من الشام إلى القطب الشمالي
جددت موسكو إغضاب خصومها حينما أبرزت في الأمم المتحدة مؤخرا وثائق تثبت ملكيتها لمليون كم مربع إضافية بما فيها القطب الشمالي امتدادا لجرفها القاري وواشنطن تتفرج.
بعد أن تقدمت روسيا سنة 2001 إلى الأمم المتحدة بطلب الاعتراف بملكيتها لأراض برقعة مليون و200 ألف كم مربع في قاع المحيط المتجمد الشمالي، لقيت الرفض، الأمر الذي حملها على إثبات ملكيتها بالدليل والبرهان، في وقت اعتبر فيه خصومها أنها لن تفلح في ذلك لصعوبة المهمة واستحالة الغوص في أعماق الشمال السحيقة.
والنتيجة كانت، أن العلماء الروس وكما اعتاد منهم العالم، أدهشوا الجميع ووثقوا ملكية بلادهم لهذا القاع بما يحويه في أعماقه من ثروات طبيعية في مقدمتها ما يربو على خمسة مليارات طن من النفط والغاز تعزز الاحتياطيات الروسية، وما له من رمزية حيث يمتد تحت مياه القطب الشمالي بما يجعل الغواصات والكاسحات الروسية تتربع على قبة الكرة الأرضية وتعتلي ذروة العالم.
كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، أم "نظرية" الفوضى "الخلاقة"، وصحبها ممن دبروا "الثورات الملونة" و"ربيع" العرب، عملت جاهدة على إحباط مساعي موسكو لتثبيت ملكيتها على قاع يمثل امتدادا لأراض فتحها أشداء الروس الذين تحدوا صقيع الشمال وتغلبوا على الطبيعة بوسائل بدائية، واستمروا في تطويعها ويرسلون البعثات العلمية إليها منذ القدم وحتى يومنا هذا.
واشنطن لم تخف كذلك تذمرها، وأكدت على لسان صقورها أنه "لا يحق لبلد واحد امتلاك ثروات سيبيريا والقطب الشمالي، فهي ملك للإنسانية جمعاء"، متناسية أنها لو استطاعت لاستحلت هذه المناطق والثروات وغيرها ضاربة بالإنسانية والعالم والقانون الدولي عرض الحائط.
فبين الوسائل التي لجأت إليها واشنطن علها تفلح في إجهاض الجهود الروسية شمالا، إطلاقها برنامجا "حقوقيا" للدفاع عن سكان الشمال الروسي، كما صارت تؤكد، على غرار ما كانت تطرحه في الشيشان أن ثروات الشمال من حق السكان الأصليين، لا من حق موسكو، وأنه لا بد من إنصافهم، فالولايات المتحدة جاهزة ولن تبخل في الدعم.
الولايات المتحدة، وحينما "تفانت" في "إقرار حقوق الشعوب الأصلية" كانت تعتقد أن العالم لم يعد يذكر ما فعلته فرقها العسكرية التي ذبحت وشردت ملايين الهنود الحمر من أراضيهم، بل نسيت مسابقات "سلخ الوجوه" التي برع فيها عسكريوها وجندها حينما كانوا يمثلون بأسراهم من الهنود.
الماضي والحاضر يشهدان لموسكو ومنذ عهد القياصرة برعاية شعوب الشمال الروسي والأقليات ودعمها في الحفاظ على طبيعة معاشها التي اعتادت عليها عبر التاريخ، حتى أن الإمبراطورية الروسية كانت تعاقب على بيع الكحول أو ترويجها بين الشعوب الشمالية نظرا لافتقار أبناء هذه الأعراق لما يسمى بجين تفكيك الكحول ما يجعل من يحتسيها منهم مدمنا في فترة وجيزة.
تعداد السكان في هذه المناطق ما انفك يسجل زيادة مضطردة في جميع مراحل الدولة الروسية، إذ ما انفكت موسكو تمنحهم الامتيازات وتشيد لهم المواقع الحيوية، وحتى المدارس والمستوصفات المتنقلة التي ترافقهم في ترحالهم الذي تفرضه عليهم حياة البداوة الشمالية.
روسيا بنت في تجمعاتهم قرى تحولت إلى بلدات ومدن مزدهرة لمن قرر التحضر منهم، كما يحصلون على ما يعرف بـ"الامتيازات الشمالية" بما يوفر لهم الكثير من الحقوق ويعينهم في سبل عيشهم. بل إن السلطات الروسية لا تتجاهل تجمعاتهم خلال الحملات الانتخابية وترسل لهم صناديق الاقتراع بواسطة المروحيات والزحافات، فهم كسائر مواطني روسيا الاتحادية، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
ومنه، وبالوقوف على التطورات الأخيرة وما يشهده العالم من تحولات، يبدو أن القطب الشمالي صار ساحة حرب باردة لن يربحها سوى القطب القادر على شق الجليد وتحطيمه بالكاسحات، وترسيخ حضوره بالغواصات وأجهزة العوم العميق في ظروف تشبه تلك السائدة في الكواكب البعيدة.
فروسيا تملك حاليا 40 كاسحة جليد منها 3 تعمل بالطاقة النووية، كما تواصل تصنيع 11 إضافية، فيما يمتلك الأسطول الأمريكي من هذه السفن ذات الأهمية الاستراتيجية 3، منها اثنتان فقط تصلحان للاستخدام.
وفي آخر تطور ملموس على الحلبة القطبية، بدأت روسيا الصيف الماضي هناك مناورات واسعة النطاق بمعايير الظروف الشمالية، تمثلت في تدريبات أجرتها قوات تكتيكية مشتركة، وسفن وغواصات تابعة لأسطول الشمال. وشارك في المناورات زهاء ألف فرد مزودين بعربات الإنزال والزحافات، والجرارات المجنزرة والطائرات بلا طيار.
ولمس المراقبون في مناورات موسكو الفريدة من نوعها هذه، رسالة معبرة تؤكد بها إصرارها على ضمان أمن العمق الروسي شمالا ليطال القطب، وتأمين الملاحة البحرية والنشاط التجاري والاقتصادي الروسي عبر طرق الشمال البحرية، كما أبرزت حدة الصراع الدولي الوليد.
ويجمع الخبراء كذلك، على أن هذه المنطقة ستتحول إلى حلبة للمبارزة بين كبريات دول العالم على غرار إفريقيا في القرن الماضي، حيث تطمع الدول الصناعية بالاحتياطات الطبيعية الهائلة المكدسة في القطب الشمالي الأمر الذي قد يشعل نزاعات بحرية تصلح لتكون مادة للخيال العلمي.
وبالعودة إلى طلب موسكو الرسمي الذي رفعته للأمم المتحدة عملا بالقانون الدولي، تكون روسيا قد أقرنت القول بالفعل، بعد جهود علمية مضنية استمرت لأكثر من عقد من الزمن ووضعت العالم أمام أمر واقع، إذ لم ترفع طلبها قبل أن تغرس عملها في قاع المحيط المتجمد الشمالي في تحد غير مسبوق للطبيعة ولمن يحاول أن يدنو من ممتلكاتها التي لا تغيب عنها الشمس حقا.
صفوان أبو حلا
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب)