الحرب كما الحب؟
"الدولة" تتغنى...باريس تبكي وموسكو تواسي وتتوعدبعد الهجمة الإرهابية التي هزت العاصمة الفرنسية عمت العالم موجة عارمة من الغضب والتذمر، فيما أطلت "الدولة الإسلامية" برأسها من جديد لتتبنى الاعتداء وتتعهد بالمزيد.
ففي أعقاب هذا الهجوم، انهالت على القيادة الفرنسية أكوام من برقيات التعازي والمواساة عبر فيها أصحابها عن تضامنهم مع فرنسا حكومة وشعبا، وعن وقوفهم إلى جانب باريس في محنتها للقضاء على الإرهاب وقطع دابره أينما كان.
تفجيرات باريس، كان لها صدى غير مسبوق في جميع أصقاع الدنيا، صدى وصل إلى البيت الأبيض ودار الحكومة البريطانية والقصور الملكية في أوروبا والخليج وحتى إلى "الباب العالي" في اسطنبول، فيما تمر الشاشات الغربية ودور الإعلام الدولي مرور الكرام على التفجيرات الإرهابية التي تكابدها مدن سوريا والعراق بشكل شبه يومي، إذ أصبحت مشهدا اعتياديا لا بد من إدراجه في قائمة البث لا أكثر.
عندما شهدت دمشق أول تفجير دام هزها وأربك كيانها الراسخ كما قاسيون، وأبكى الأمهات والرجال، آثرت الدول الغربية وعواصم بلدان "أصدقاء" سوريا الصمت، واكتفت ببث المشاهد المروعة والتعليق عبر قنواتها مستغلة الحدث وجعلته "مسوغا إضافيا يحتم زوال النظام السوري ورحيله". وأمعنت هذه العواصم كذلك في بث البرامج "التحليلية والتعليقات الاستخبارية، المستقاة من مصادر موثوقة" وسط إجماع على "تورط النظام السوري تارة، واستخبارات هذا البلد أو ذاك تارة أخرى".
قنوات عواصم "الأصدقاء"، عوضا عن تعزية الشعب السوري والإعراب عن التعاطف معه في محنته بغض النظر عن صاحب التفجير والضحية، كانت تؤكد نظرية "خارقة" فحواها "أن النظام إنما يريد من وراء هذه التفجيرات ترويع السوريين وإقناعهم بضرورة بقائه"، رغم أن التنظيمات الإرهابية التي عششت في المنطقة تسارع بعد كل تفجير إلى إعلان التبني متفاخرة، فهدفها "نبيل" وتنشد به "تخليص سوريا من نظامها وإرساء الحريات فيها".
وبعد أن صارت التفجيرات الإرهابية تتكرر في سوريا، وتحصد أرواح أطفال المدارس والمصلين في مساجدهم وكنائسهم، اشتد الصمم في مسامع "المتنفذين" في العالم، واستمروا في رفض الدعوات الروسية ولو حتى باستصدار بيان مقتضب أو بخس عن مجلس الأمن الدولي يدين الإرهاب في سوريا ويشجب مدبريه وداعميه دون التسمية.
وكما في أول تفجير هز الشام، ما انفكت عواصم "صنع القرار" صامتة كما الأسماك الخرساء، التي لا صوت لها يسمع تحت الماء، بل كرمها الخالق بعيون كبيرة جاحظة تتفرج على ما يحدث في سوريا والعراق، وتكرر أشعارها الدارجة حول "الديمقراطية وحقوق الإنسان والوحدة الوطنية في العراق، ومثل ذلك في سوريا شريطة زوال النظام واندثاره، أو حتى تبخره من على وجه البسيطة".
وعلى مر خمس داميات، حاول "الأصدقاء"، وبشتى السبل إيجاد حل في سوريا يضمن "غاية رحيل النظام" ويبرر أي وسيلة لذلك حتى ولو كان الثمن أرواح أبرياء تزهق بلا ذنب، وعكفوا على مد يد العون للزمر الإرهابية مرة "عن طريق الخطأ"، وأخرى نظرا "لاعتدالها".
السؤال الذي لا يحتمل التأجيل مع تداخل أصوات أبواق عربات الإسعاف والشرطة في العاصمة الفرنسية المفجوعة، هل مصيبة باريس أشد وقعا وألما على أصحابها من الملمات التي حلت بشعوب المنطقة، وهل سيتعظ هولاند وأوباما وكيري وسواهم ويدركون أن يد الإرهاب خفية ولا تعرف صاحب، ويوقن أردوغان الذي شرع بوابات بلاده في وجه شذاذ الأفق إلى سوريا من أوروبا بما فيها فرنسا الثكلى؟
هل سيدرك جميع هؤلاء بطلان منطق تشرشل في أن "الحرب كما الحب يجوز فيها كل شيء"، وأنه حان الوقت لضرب الإرهاب في جميع انحاء الدنيا وأينما كان؟
فالإرهابيون، وبعد خيبة أملهم الكبيرة بمن دعموهم ومولوهم وقالوا لهم، سيروا فنحن وراءكم، تقدموا باسم "الجهاد لتنالوا الشهادة في أرض الرافدين والشام لتدخلوها آمنين وتقام لكم دولة"، أدركوا أنهم ليسوا أشر الخلق، بل هناك من هو أدهى منهم، ومن جعلهم وقيدا لنار حرب حامية لن يطفئها إلا الأقوى.
الأقوى وكما يظهر الميدان، كان سلاح الجو الروسي ويد موسكو الطولى التي تدمر مواقع الإرهابيين وتحصيناتهم وتنسف بيوت مالهم وخزائنهم التي جمعوا "مدخراتها" من "التبرعات والدعم الخارجي"، ومن "إيرادات" النفط السوري والعراقي المنهوب، و"عائدات" الاتجار بسبايا القرى الآمنة وأطفالها.
موسكو، واستمرارا لنهجها الثابت، لن تتوانى في مباحثات فيينا، قمة "العشرين" عن تذكير الجميع بأن الوقت قد حل ولو بعد حين، للاعتراف بالفشل والتخلي عن مبدأ "الإباحية في الحب والحرب"، فمصاب باريس والعالم المتحضر لا يزال أمام الأعين.
فهي ناشدتهم جميعا، بل ترجت واشنطن منذ بداية الأزمة السورية وقبلها ألا تلعب بالنار، لأنها قد تحرق اللاعب، وألا تغازل الأفاعي لأنها ستلدغ لا محالة. ودعتهم كذلك للعمل معا على مكافحة الإرهاب وتجفيف منابع تمويله، وترك تقرير مصائر الدول لشعوبها.
وعليه، واستنادا إلى مواقفها الثابتة تجاه الإرهاب وسواه من القضايا الملحة في العالم، تبدو روسيا قولا وفعلا البلد الوحيد القادر على معالجة الأزمات بواقعية، والمستعد بقرار سيادي حازم لاستخدام السلاح في ضرب الإرهاب أينما وجد دون المتاجرة بأرواح المدنيين ومصائر البلدان والأنظمة.
ولكن، هل ستفلح موسكو في فضح العواصم التي تمول الإرهاب وتأويه، وتتمكن من تعرية "إباحيي السياسة" الذين يعيثون في بلدان المنطقة والعالم فسادا، وهل ستتمكن من صد الحملة الدعائية الشعواء ضدها وتقطع أوصال "داعش" بما يخدم حقن دماء الأبرياء في العراق وليبيا وسوريا ومصر ولبنان وفرنسا؟ هذا ما يتمناه الملايين في روسيا وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا وحتى في أمريكا اللاتينية.
صفوان أبو حلا