مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثامنة - منذ نهاية الحرب وحتى نهاية الستينات
يمكن القول إن هناك مرحلتين في حركة الشعر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الستينات، رغم تداخل توجهات نهاية المرحلة الأولى ببدايات المرحلة الثانية ، حيث تبتدئ المرحلة
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الأولى - إجمال مختصر
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثانية - العهد الفضي في الشعر الروسي وأهم تياراته الإبداعية (الرمزية)
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثالثة - الأكميزمية
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الرابعة - المستقبلية
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الخامسة - العشرينات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السابعة – الأربعينات
الشعر الروسي منذ نهاية الحرب وحتى نهاية الستينات
يمكن القول إن هناك مرحلتين في حركة الشعر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الستينات، رغم تداخل توجهات نهاية المرحلة الأولى ببدايات المرحلة الثانية ، حيث تبتدئ المرحلة الأولى منذ عام 1945 وحتى أواسط الخمسينات، والثانية منذ أواسط الخمسينات وحتى بداية السبعينات .
كانت فرحة النصر شاملة في كل أرجاء العالم، لكنها كانت أكثر بهجة وعمقا لدى الشعوب السوفييتية كونها تلقت العبء الأكبر من ويلات الحرب، وكان قدر مبدعيها أن يتمثلوا العصافير التي تبشر بالربيع بغنائها واستشرافها لما بعد الحرب . وأول ما يلفت النظر في هذا المجال أن الترنم والابتهاج بالنصر، ظل مشدودا إلى جراح الحرب وويلاتها، وذكرى من سقطوا في أتونها لتحقيق هذا النصر، مما خلق تنويعا واضحا على مضامين القصيدة في هذه المرحلة، حيث مازجت الأعمال الشعرية بين الفرحة بالنصر والأمل ببناء ما تدمر بالذكرى الأليمة، كنوع خاص من السياق يمزج الدمعة بالابتسامة ورنة الحزن ببشائر المستقبل . هذه التوجهات جعلت من أشعار ما بعد الحرب تسجيلا أمينا وداميا ومستبشرا لكل مشاعر الشعب الذي عانى في كل مكان ويلات الحرب، والذي يطمح في كل مكان لبناء الوطن من جديد ، ولكن نبرة الحزن ظلت مسيطرة من خلال الذكرى التي لم تجف دماؤها بعد، وحيث يبدو مخاض الربيع عسيرا كما لدى أخماتوفا في ذكرى صديق :
في يومِ النصرِ في الوداعِ الضَبابيّ
حينَ بدا الفجرُ بهالتِهِ الحَمراء
تأخرَ الربيعُ وقد بدا مُنهَمِكا كأرملة
ينفخُ الفننَ دونَ أن ينهضَ على ركبتيه
ويربِتُ على الأعشاب
وتهوي الفراشَةُ من الكتِفِ إلى الأرض
وتتفتحُ الزهرةُ الأولى للربيع
وشيئا فشيئا يتنامى الإحساس بالثقة بالنفس والاعتزاز بمأثرة الصمود والفداء، ورغم بداية ملامح التفاؤل تبدو الحرب وذكراها كالإطار الذي يحيط بلوحات القصائد، حيث انغرست ذكرى هذه الحرب في الوعي واللاوعي، مع ظهور نزعة واضحة تتنامى لسبر عالم الإنسان والعمق الفلسفي للحياة، الأمر الذي يأخذ مداه لاحقا ، فيما تستمر القصيدة الأغنية التي كان لها تأثيرها الكبير سابقا لشحذ الهمم لمواجهة الأعداء ، وظل لها تأثير لا يقل عن ذاك في تلك المرحلة لشحذ الهمم لبناء الوطن وتجاوز جراح الماضي ، من هنا ظل العامل الوجداني مسيطرا بشكل واضح ، سواء في القصيدة او البوئيما أو البالادا، وإن ظل طاغيا في القصائد التي تحول قسم كبير منها إلى أغان وتميزت بالولوج نحو أعماق النفس الإنسانية:
أيّتُها البلابل.. أيّتُها البلابل
لاتعبَثي رِفقاً بأشجانِ الجنود
دعي النومَ يحضنهم قليلاً
أسلميهم لو قليلاً للهدوءْ
جاءَ الربيع.. حتى إلينا جاءَ للجبهة
ونأى الكرى والنومُ عن عينِ الشباب
ليسَ من صوتِ المَدافِع
بل لأنَّ الغصنَ هزَّتهُ البلابل
ويستنطق الشعراء مظاهر الطبيعة في موضوعة شاملة ، هي العودة للوطن المحدد القرية والبلدة والمدينة والشارع ، حيث يتمازج الشعراء مع الأشجار والجداول والغابات ، وحتى الأبنية بين الخرائب التي انمحت معالمها الأولى:
عدتُ للوطن
وضجَّت البتولا للقاء
.. وها إنني أسيرُ كما في أيامِ الشباب
في الشارعِ خلفَ النهر
وحتى في حارتِنا الهادِئة
ولا أعرفُها مطلقا
وتطغى موضوعة السلم والحرب منذ أواسط الخمسينات على النتاج الشعري، ليس فقط بدافع ذكريات الحرب بل نتيجة ثقل أجواء الحرب الباردة التي تتزايد مخاطرها وتوجهاتها التناحرية، وتبلور المعسكرين المتناقضين حيث تبدأ نبرة تحليلية للواقع وآفاق المستقبل ، وخاصة عبر البوئيمات وما يمكن أن نسميه المذكرات اليومية في استعادة ذكريات الماضي القريب واستخلاص العبر، من مثل ( بيت على الطريق ) لتفاردوفسكي، و(الحديقة) لبروكوفييف، و( الرداء العسكري ) لدرونينا ، وكذلك التركيز على مهمة الشاعر والمبدع كإنسان عظيم في مجتمعه، واستنطاق الشهداء وإبراز روعة الغيرية كما في (قائد الدبابة ) لأرلوف . ويبدو بوضوح تأثير المدى الأخلاقي حتى في الفهم الجمالي ، انطلاقا من أن الجمال لا يمكن أن يكون لذاته، بل بقدر ما يكون الإنسان حرا يستطيع أن يتذوقه، ويندرج ذلك على جماليات السلام انطلاقا من شناعة نقيضه الحرب، وتبدو قصائد هذه التوجهات مليئة بالوعظ والنصح كما في (السلام للعالم ) لسوركوف، و(تياران) لتيخونوف، و( الأصدقاء والأعداء) لسيمونوف .
ورغم طغيان السمة الخطابية والشعارات التحريضية إلا أن بعض النتاجات الشعرية استطاعت الغوص أحيانا إلى عمق الحالات الإنسانية كقصيدة ( القميص ) لتيخونوف ، والتي يتحدث فيها عن مؤتمر بعد الحرب ، حيث يتقدم أحد المندوبين ناقلا تحية مقاتل من بعيد ورسالته إلى هذا الجمهور، وهو قميصه المغمس بالدماء:
وكلُّ من كانوا في القاعةِ
رأوا ناهضين
قميصاً دامياً من أورغواي
معلقاً كما لو أنه في الليلِ الأزرق
امسك به الصديقُ وهو منجعك
ووقفنا نحنُ بصمتٍ عميق
ورأينا كيفَ يتحولُ لفظ الصراعِ
الذي ندعو إليه إلى جسدٍ مُمزَّق
يتبدى التفاؤل الذي يزاحم ذكريات الفاجعة حتى في عناوين القصائد والبوئيمات، وتتكاثر ألفاظ الربيع وقوس قزح وصفاء البحار
والآفاق المضيئة ، وتتعمق التوجهات الفلسفية والتأملية منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وتظهر مجموعة من الشعراء الجدد بعطاءات متميزة ، لكنها تبقى مشدودة إلى بعض جوانب مرحلة الحرب والنصر، وخاصة أولئك الشعراء الذي عاشوا طفولتهم وقت الحرب ويشكلون ظاهرة صاخبة، ويلقون تفاعلا جماهيريا واسعا حيث تتحول الأمسيات إلى تظاهرات ثقافية حاشدة، بما في ذلك في الساحات العامة والقاعات الضخمة ،ومن أشهر ممثلي هذا الاتجاه يفتوشينكو وروجديستفينسكي و بيلا أخمادولينا و اندريه فوزنيزينسكي وغيرهم ،وفي مقابل هذا التوجه يظهر توجه آخر يمكن تسميته بالتوجه الهادئ ومن أشهر ممثليه روبتسوف
وسوكولوف وجيفولينا، رغم تداخل بعض نتاجات هؤلاء الشعراء من الفريقين في مراحل متفاوتة في سمات مشتركة، وميل بعض الشعراء إلى تعميق المجازات والاستعارات والرؤى الشمولوية لاحقا كما لدى اندريه فوزنيزينسكي مثلا .
ويتزايد بوضوح تشعب توجهات القصيدة مترافقة بحركة نقدية ناهضة، ويتوضح في غضون ذلك اتجاهان رئيسيان اتجاه ظل يحافظ على النمط الكلاسيكي الهادئ، والاتجاه التجريبي في محاولة لتجسيد لغة العصر الصاخبة، وتعميق الجانب الاستعاري . ولا تلبث الموجة الحماسية الجماهيرية أن تفرز حالة من التأزم بين الشاعر وعالمه الداخلي، فاسحة المجال للنقد الذاتي وتصل أحيانا حد رفض التجربة الماضية وتأنيب الذات كما لدى يفغيني يفتوشينكو :
دائما أكررُ لنفسي
لماذا أدجِّلُ على الناس
لماذا أصوِّرُ لهم أنني أستطيعُ
ما لا أستطيعُ في الواقع
امنحني يا إلهي أن أكونَ شاعرا
ولا تمنحني قدرةَ أن أكذِبَ على الناس
على أن هذا النداء لم يكن فرديا بقدر ما يعكس صورة واسعة لحال الشعر، مما دفع لا إلى ردة فعل تتجاهل المرحلة السابقة افتعالا،
بل إلى تعميق ما يجب تعميقه من دروسها، والخروج من المباشرية والهتافية إلى التأمل ورصد الرؤى بترو نسبي، وفي الوقت نفسه تلقي الظروف السياسية العالمية بظلالها على مجمل حركة الإبداع بما في ذلك في النتاجات الشعرية ، ويتم التركيز بوعي أكبر على الجوانب الإنسانية الكبرى وكنهها الفلسفي الأمر الذي يأخذ مداه لاحقا في مرحلة السبعينات . هذه التوجهات حاولت النظر حتى إلى جبروت الإنسان وقدراته في استنطاق مفارقات تحمل عناصر الطبيعة وجلده مع وجود خصائصه الإنسانية المختلفة :
لدى الأشجارِ لا يوجدُ طبعا أعصاب
ولا يوجدُ قلوب
ولو لم يكن الأمرُ كذلك
لما استطاعت على ما يبدو
تحمَّلَ الأمطار المديدةَ الثقيلةَ كالرصاص
ولما استطاعت أن تقفَ طيلةَ القرن تحتَ العاصفة
محافظةً على ضجيجِ أوراقِها المَرِح
فكيف – أيَّها الناس غيرُ القاسيين بنوعكم –
وقفتم أنتم ؟
وقد اشتعلت حوارات ساخنة في الستينات – استمرت بقوة في السبعينات – حول مشكلة الأسلوب ومفهومي التقليد والمعاصرة، ومدى تناسب الأسلوب للمضمون الذي يعبر عنه العمل الشعري، وحول مسار وآفاق التجريب الفني ، ومع ذلك ظل تعايش الأساليب هو المسيطر ولم يتحول التباين بين الأساليب إلى صراع تناحري، ولم يستطع تيار أن يلغي آخر فلكل توجه ما يكفي من الجمهور، من هنا تعايشت الأساليب التجريبية والصاخبة والحماسية مع الهادئة والكلاسيكية بما في ذلك السوناتا والبالادا والبوئيما على صعيد الشكل، وتمازجت كذلك المضامين المتنوعة بين ما هو تاريخي ووجداني ووثائقي، كما لدى أولغا بيرغوليس ناهيك عن تعميق الحوارات ، وخاصة بين العقل والقلب وضرورة الاستفادة من عطاءات الإبداع في خضم الحياة كما لدى فيناغورث :
إذا هزَّتكَ العبارةُ الأولى
في كتابٍ فتحتَهُ بمحضِ الصدفة
لا تسرع .. انهضْ وابتعدْ عن الطاولة
لا تقرأ العبارةَ الثانية
.... احمِل العبارةَ الأولى عبْرَ الحياة
هذا عدا عن انتشار ظاهرة الحوار الهادئ مع قارئ مفترض، بعيدا عن مشاغل الحياة اليومية وصخب القاعات الكبرى عبر تساؤلات قد
تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكن إجاباتها تحتاج إلى سبر عوالم عميقة الغور، ومن أشهر شعراء هذا التوجه روبتسوف وتريابكين ورينيلكوف وسولو أوخين :
كل شيءٍ كان بِكراً يحدث للمرةِ الأولى
ولكن ما الذي نَفعلهُ الآن
إذ لم يبقَ من السعاداتِ الحياتية
ومن السعاداتِ العظيمة
ما يمكنُ أن تقابلهُ بحيثُ تشعرُ أنَّه
يحدثُ للمرةِ الأولى
وكان بديهيا أن تغوص البوئيما نتيجة تركيبها الواسع في عمق الحياة واستشرافها بآن معا، مدخلة مواضيع متعددة في لحمتها تحليلا للواقع وأبعاده ، وتعمقا في النفس الإنسانية كفرد ومجتمع، ويرى معظم النقاد أن بوئيما تفاردوفسكي (مدى وراء المدى) من أهم العطاءات الشعرية متنوعة الأبعاد من خلال الاستفادة من تطور حركة الواقع، وكون الحاضر دائما جسرا للانتقال إلى مراحل جديدة، وبدت منذ الخمسينات مؤشرا ارهاصيا للغوص في ظاهرة التغير المستمر وكونه تغيرا ومغيرا مع تطور الأبطال بالتفاعل مع تطور الأحداث وسبر كنه الزمن :
هناكَ نوعان من طرقِ التجوال
أحدُهما هو الانتقالُ من المكان
نحوَ البعيد
والآخرُ يبقى مكانَهُ لكنه
يقلبُ أوراقَ التقويم نحوَ الوراء
ويعمق ايغور إيسايف من فن البوئيما الذي كاد ان يقصر نتاجاته عليه، ويقدم في الستينات مجموعة من الأعمال النوعية، وخاصة (محكمة الذاكرة) حيث يسعى لمعالجة دور الإنسان في السيرورة التاريخية ،في إطار حوارات متخيلة تصب في تصاعد أحداث البوئيما ، مبرزا دور الضمير الإنساني في تعميق الحس الأخلاقي الاجتماعي الذي يمكن من خلاله فهم جوهر الحياة والفداء:
أتعتقدون أن الأمواتَ يصمتون؟
طبعاً ستقولون نعم..
ليسَ صحيحاً
إنهم يصرخونَ طالما قلبُ
الأحياءِ ينبض وأعصابُهم تحس
ويرى العديد من النقاد أن مرحلة الستينات كانت بحق مرحلة تألق البوئيما واغتنائها، مستفيدة من تنوع موضوعاتها وأساليبها ، وتعميق دور (الأنا) الشاعر في لحمتها والتدخل بمسار حوادثها من خلال مزج الموضوعية بالذاتية كمنهج فني متنام مع تنامي حركة الواقع ذاته أو كمرآة له.