مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السابعة – الأربعينات
تعتبر مرحلة الأربعينات من أغنى المراحل تنوعا في تاريخ الشعر الروسي، وذلك من خلال رصد مختلف أجواء الحرب العالمية الثانية، والتي سميت بالنسبة لروسيا – والاتحاد السوفييتي السابق عموما – بالحرب الوطنية العظمى
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الأولى - إجمال مختصر
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثانية - العهد الفضي في الشعر الروسي وأهم تياراته الإبداعية (الرمزية)
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثالثة - الأكميزمية
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الرابعة - المستقبلية
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الخامسة - العشرينات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثامنة - منذ نهاية الحرب وحتى نهاية الستينات
الحلقة السابعة – الأربعينات
بقلم د. أيمن أبو الشعر
تعتبر مرحلة الأربعينات من أغنى المراحل تنوعا في تاريخ الشعر الروسي، وذلك من خلال رصد مختلف أجواء الحرب العالمية الثانية، والتي سميت بالنسبة لروسيا – والاتحاد السوفييتي السابق عموما – بالحرب الوطنية العظمى ، ويمكن القول أن الصدارة عادت للشعر كونه الأكثر قدرة على مواكبة الأحداث العاصفة، وذلك من خلال تنويعاته وتواصله المباشر مع الجماهير التي كانت بأمس الحاجة إلى الدعم النفسي والروحي لمواجهة الظروف القاسية الهائلة التي كان يمر بها .
ولعل انتشارَ القصيدة الأغنية هو من أهم الظواهر التي أخذت مداها في تلك المرحلة ، فقد لعبت الدور المحوري الأول كرسالة صوتية تبث عبر الإذاعة ، ومن ثم يرددها الجنود على الجبهات وأهاليهم في الداخل، وقد تنامى التعاون الذي بدأ عمليا أواسط الثلاثينات بين الشعراء والموسيقيين، ومن أهم هذه النتاجات قصيدة فاسيلي ليبيديف كوماتش ( الحرب المقدسة ) التي لحنها الكساندروف وأدتها فرقة الجيش الأحمر في محطة القطارات التي كانت تنقل الجنود إلى الجبهات، وكانت تمنحهم شحنة عالية من
المشاعر الوطنية ثم باتت إذاعة موسكو تفتتح بثها اليومي بها:
فليَكنْ للغضبِ الشهمِ أن يغلي كالموج
فالحربُ الشعبيةُ تمضي
إنَّها الحربُ المقدسة
وإن كان قسم كبير من هذه النتاجات ذا طابع حماسي تحريضي وخاصة في البداية، إلا أن القصيدة الأغنية سرعان ما باتت سجلا للعواطف والمشاعر التي تعكس جميع جوانب ما عاشه الناس زمن الحرب وتطوراتها ، وظهرت قصائد مغناة متخصصة حتى لصنوف الأسلحة وأبطالها، قصائد عن معارك الدبابات ، وأخرى عن بطولات الطيارين أو المشاة او مشاهد توديع الأهل للبحارة المنطلقين من الميناء نحو القتال:
ووداعاً ياهوانا يامدينة
في غدٍ للبحرِ نمضي
من عميقٍ نحوَ أعمقْ
إذ يلوحُ الشالُ حُباً خلف ألواحِ السفينة
راعشاً واللونُ أزرق
واستطاعت القصيدة الأغنية أن تمس بعمق ووجدانية مختلف جوانب الحياة عازفة على أوتار القلب، فقد كتب معظمها تعبيرا عن حوادث واقعية مر بها الشاعر في مفاجآت الحرب، كما حدث للشاعرسوروكوف الذي نجا بأعجوبة من حقل ألغام، وما إن وصل إلى المكمن حتى بدأ يخط لحبيبته قصته التي غدت أغنية شهيرة :
كي التقيكِ الدربُ نائيةٌ عصيَّة
وببضعِ خطواتِ إلى الموتِ الوصول
في بردِ هذا المَكمَنِ الأرضي إنّي أتدفا
بالحبِّ حبُّكِ ليسَ يُطفا
من جهة ثانية وسعت القصيدة الأغنية مع استمرار الحرب من توجهاتها، واتكأت في كثير من الأحايين على التراث الثوري وخاصة الحس الأممي وذكريات الحرب الأهلية، وكان من أهم سماتها التكثيف والبساطة والعبارة الإيقاعية، وتناسبت صياغتها مع موضوعاتها جهامة وفخامة للرصد المأساوي أو الحماسي إلى جانب الصياغة الرشيقة بالنسبة للقصائد المرحة التي تحاول إنعاش أحاسيس المقاتلين بلقطات إنسانية محببة ومرحة أحيانا:
حينَ مضى للحربِ الجَهمَة
في ليلٍ نجميِّ الظلمة
عرضَ على المحبوبةِ قلبَهْ
فأجابتْ تلكَ المعتدَّةْ وهي تُمازح
حين تعودُ وفوقَ الصدرِ وِسام
نتحدثُ في أمرِ الخطبة
لم تمنحْه الحربُ وِسام
لكنْ كُرِّمَ بميدالية
كالطائرِ جاءتْهُ رسالة
عُدْ لي حتى بميداليّة
تجدر الإشارة إلى أن بعض القصائد المغناة باتت شهيرة في هذه المرحلة بالذات على الرغم من أنها كتبت في زمن سابق حتى باتت من
ذاكرة أشعار الحرب ، وخاصة قصيدة كاتيوشا للشاعر إيساكوفسكي التي باتت الأغنية الأولى على كل الشفاه باعتبارها قصيدة وأغنية الأنصار الفدائيين، وقد انتقلت بموسيقاها إلى مختلف أنحاء العالم ونقدم هنا مقاطع من ترجمتها منوهين بأننا اعتمدنا في هذه الترجمة صيغة تمكن القارئ العربي من أدائها مع لحنها الروسي :
أزهَرَ التفاحُ كالعريشة
وتهادى للنهرِ الضباب
للشاطي تقافَزَت كاتيوشا
وهْوَ عالٍ ملتوٍ ينساب
أقبَلَت تُرَدِّدُ الأغاني
عن ألوانِ نسرِها البرِّي
عن محبوبِها الذي تصونُ
كلَّ ما يخطُّ في الصدرِ
الشعر الوجداني عموما لم يخرج في توجهاته عن إطار القصيدة الأغنية من حيث المضامين، إلا أنه وسع من حيثياتها وأضاف عناصر حيوية أخرى وخاصة في البالادا والقصة الشعرية ، من هنا كانت لغة القصائد ونهجها العام وطبيعة التصوير فيها متقاربة، حيث كثرت التعابير والمصطلحات الحربية إلى جانب الرنين الحزين أو النبرة الهامسة حسب الموضوع المطروق، وكانت الإيقاعات والقوافي متقاربة بتعددها نتيجة توحد المعاناة والأمل لدى الناس والشعراء للتعبير عن بوتقة مشاعرية واحدة، وسيطرت المواضيع التي تتحدث عن حب الوطن والتلاحم الأممي واستنهاض العبر ومآثر المدافعين عنه عبر التاريخ ، كما تنامي الحوار والمماحكة ومناقشة خلفيات الأحداث وما يسمى بالقصائد الريبورتاجية وخاصة في القصائد التي تعتمد حوارات متخيلة أو واقعية فيما بين المقاتلين أنفسهم أو مع جنود الأعداء، وذلك انطلاقا من أن الموت واحد من حيث كونه حدثا ينهي الحياة لكن المدافع عن وطنه يستشهد بطلا والغازي يموت نذلا في أرض غريبة كما هو الحال في قصيدة سفيتلوف ( الإيطالي ) ، ففي هذه القصيدة يسأله الشاعر عن ماذا يبحث في أرض لم يحرثها، ويذكره بأن المقاتل الروسي لا يواجهه في إيطاليا بل فوق أرضه روسيا، وأن الصليب الذي يحمله الإيطالي فوق عنقه ما هو إلا رمز لشاهدة قبره:
لا .. لقد جاؤوا بِكَ في القطار
من أجلِ السيطرةِ على مستعمراتٍ بعيدة
ولكي ينمو الصليبُ الذي أهدتكَ
إياهُ الأُسرة .. وعلَّقتهُ في صدرِك
حتى يغدو كشاهدةٍ لقبرك
كما يبدو الفداء والقيام بالواجب الوطني على أرض المعركة مقدسا وأمرا اعتياديا لا بد منه كونه انعكاسا لتجارب حقيقية اجترحت فيها مآثر تستحق أن تكتب بماء الذهب ، ومن أشهر هذه الأعمال قصيدة ( بالادا ) ابن المدفعي لقسطنطين سيمونوف ، حيث يرسل قائد قطعة المدفعية شابا هو الملازم ليتونكا ليستطلع مسافة وفاعلية مرمى البطارية، فيكتشف الملازم أن الألمان قد وصلوا إلى مكانه، فيرسل إشارة سرية لقصف هذا الموقع بالذات، ولم يكن على الرائد سوى أن يقصف المكان ناسيا أنه أب:
طارتِ الأرضُ والصخور
وارتفعَ الدخّانُ عموداً
وبدا أنْ لا أحد سيخرُجُ حيّا
وأرسلَ شارةً ثالثةً بالجهاز
الألمانُ هنا
أطلقوا على الرقم أربعة عشرة
لا تبخَلوا بالنار
وبُهت الرائدُ وهو يسمعُ الرقم أربعة عشرة
إنها النقطةُ حيثُ يقبعُ لينكا الآن
أعمال من هذا النوع وبهذا الغنى الإنساني عمقت من مفهوم البطل الايجابي على أرض الواقع، وانتشرت منافسة القصيدة التقليدية من خلال رشاقة أسلوبها وموضوعاتها المحببة وقربها الشديد من نفسية الانسان البسيط ، من هنا اهتم بها جميع الشعراء تقريبا ، ومن أشهرها في تلك المرحلة بالادا عن الشيوعيين الثلاثة لتيخانوف ، بالادا ايفان سوخانوف لبراكوفييف، والطفل الذي أصبح مجهولا لأنتاكولسكي الذي يبرز كيف تصبح الصداقة بين الجنود زمن الحرب حالة من المسؤولية المطلقة:
أُعيقَ .. ونزفَ كثيراً من الدَّم
وهْوَ يحمِلُ ألمَهُ في صدرِه
وكانَ يرددُ دائماً على الطريق
ارمني وتابعْ
لكن موضوعة الحب والحرب ،أو فلنقل روعة دور الحب في صمود المقاتلين ظلت من أهم الإبداعات في شعر تلك المرحلة للتأكيد على
أن المقاتل لم ينس حبيبته وهو بعيد في جبهات القتال، بل كان لهيب حبها محرضا ودافعا للصمود أو للتوحد عبر الخلود معها إن استشهد، ونتيجة الوضع الذي يجعل الزمن على الجبهات مختصرا وسريعا ظهرت مقطوعات وقصائد قصيرة أو متوسطة الطول نسبيا في ما يبثه الجنود إلى أحبائهم ، وهو ما تحول إلى ظاهرة حقيقية يمكن تسميتها بالقصائد الرسائل، وكثير منها تحول إلى أغان نتيجة خصوصية صياغتها ، وقد تنوعت القصائد الرسائل حسب من كتبت له صديقا أو أبا أو أما أو ابنا أو إلى الوطن، ولكن أكثرها شهرة وتأثيرا هي القصائد التي كانت تكتب إلى الزوجات والحبيبات، حيث تعكس هذا العشق العجيب الذي يستنهض الوطن عبر الحنين وانتظار العاشقين من خلال القيم والمعاني السامية، وأن هذه الحرب هي المحك الحقيقي لإظهار مدى انصهار وتمازج حب الوطن والحبيبة في بوتقة القلب ، ومن أشهر هذه القصائد قصيدة سيمونوف انتظريني:
انتظِريني سوفَ أعودْ
لكنْ انتظري بِصمودْ
انتظري إنْ حزنٌ جاءْ
خلفَ الأمطارِ الصفراء ..
.. انتظري في البعدِ الحائلْ
حتى إنْ لم تأتِ رسائلْ
حينَ يملُّ جميعُ الناس
حلمَ المُنتَظَرِ الموعودْ
انتظريني سوفَ أعود ..
وسنقدم ترجمتها كاملة إبان نشر عدد من قصائد سيمونوف
ولا بد من الإشارة إلى أن هذه العجالة لا يمكن أن تكفي حتى لتقديم لمحة عن أهم ملامح النتاجات الشعرية زمن الحرب، تلك التي اختصرت الزمن والأجيال عبر معاناة متنوعة بعدد أيام وساعات هذه الحرب، ونكتفي بالتنويه أخيرا بظاهرة أخرى هامة في هذا السفر، وهي قصائد الأسرى التي امتازت بالدرجة الرئيسية بإظهار الحنين الطاغي والتشبث بالأمل بأن العودة إلى الديار لا بد أن تأتي ، وأن معنى الحياة في الأسر إنما يستمد من هذه المشاعر في استنهاض صورة الوطن الذي ينتظر أيضا، حتى أن بعض هذه الأشعار انتشرت وباتت شهيرة وظل شاعرها مغمورا وربما كان قد قضى نحبه في الأسر:
إنني سأعودُ إليكِ ياروسيا
لكي استمعَ إلى ضجيجِ غاباتِك
لكي أرى الأنهارَ الزرقاءَ
لكي أمضي على دروبِ أجدادي
إن كانت القصائد المغناة والسريعة والرسائل قد واكبت الحرب منذ بداياتها، فإن القصيدة تأخرت قليلا نتيجة طبيعة بنائها المطول
والغوص نحو العمق والتحليل النفسي والسياسي، ومن أشهر قصائد تلك المرحلة ( كيروف معنا ) لتيخانوف ، و(الإبن) لأنتاكولسكي ، و ( فاسيلي تيوركين ) لتفاردوفسكي ، و( زويا ) لمارغاريتا أليغر، والتي ترصد مأساة ومآثر جيل كامل من خلال تناول حياة البطلة زويا، زويا الفدائية الشابة التي وقعت في الأسر ،وراح الفاشيون يعذبونها طويلا لانتزاع المعلومات منها، وهي صامدة بكبرياء وجلد هائلين ، حيث تتصاعد الأحداث مع نمو شخصية البطلة في البوئيما واستمرارها رمزا بعد استشهادها وصوتها يتردد أصداء ليرفع من معنويات الناس:
أيها الناس
لاتقِفوا هكذا .. لاتنظُروا نحوي
إنَّني حيةٌ وصوتيَ ما زالَ يرن
اقتلوا الأعداءَ.. سمِّموهم
إنني سأموت
ولكنَّ الحقيقةَ هي التي ستنتَصِر.