مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات

انسخ الرابطhttps://arabic.rt.com/news/34107/

حدث انعطاف نوعي في الثلاثينات مس مجمل الحياة في روسيا بما في ذلك النشاطات الأدبية، حيث اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أبريل/نيسان عام 1932 قرارا بتشكيل تنظيم رسمي موحد لجميع الأدباء السوفييت.

الثلاثينات

مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات

حدث انعطاف نوعي في الثلاثينات مس مجمل الحياة في روسيا بما في ذلك النشاطات الأدبية، حيث اتخذت اللجنة المركزية للحزب  الشيوعي في أبريل/نيسان عام 1932 قرارا بتشكيل تنظيم رسمي موحد لجميع الأدباء السوفييت، تنظيم ينهي عمليا الفرق والتجمعات والشلل الإبداعية والفنية السابقة التي بلغت أوجها كما لاحظنا في العشرينات . وتم اعتماد الواقعية الاشتراكية كنهج محوري في الأدب والنقد، مع التنويه بضرورة تطوير الأساليب الفنية استنادا إلى هذه الأرضية . وقامت الصحافة ودور النشر بدعم هذه التوجهات الجديدة وتعميقها وخاصة عبر فتح حوارات واسعة حول الواقعية الاشتراكية كمذهب وليد ، توجهت بمجملها نحو انتقاد التيارات الشكلية ،وتمجيد النتاجات التي اعتبرت ثورية ، مما أرهص لظهور أطروحات متنوعة حول الشكل والمضمون، وضرورة اتساقهما في العمل الإبداعي .
في غضون ذلك تستمر النزعة الرئيسية حول البناء الجديد والبطل الإيجابي، كرمز وكإنسان محدد. ومن أشهر شعراء هذه المرحلة
( تيخونوف، وياروسلاف سميلياكوف، وتفاردوفسكي، وإيساكوفسكي، وكورنيلوف ). وتعلو النبرة الأخلاقية والتوجيهية الاشتراكية، والتبشير بمجتمع عادل قادم بدأ أولى خطواته . ويتوجه الشعر الغنائي نحو التحديد لا التعميم ، مما يعكس لجم تشظيات المرحلة السابقة . وتغدو بعض الألفاظ والصور مكرورة كرمز جوهري ، وخاصة (الطريق) حيث تأخذ مدلولا شموليا ثوريا، وتزداد اللهجة الحماسية والمباشرية في حومة المخططات المرسومة للواقع الاجتماعي، في محاولة لجعل الشعر سجلا يوميا لحياة الناس كشعب يصنع مستقبله. اللافت للنظر أن العديد من الأدباء والشعراء يمضون طوعا للعمل في مؤسسات البناء الاشتراكي والمصانع والسوفخوزات، والمساهمة في تنفيذ الخطط الخمسية ، سعيا للكتابة عن جوهر ما يعيشونه واقعا كتجربة حية ، بحيث يتم الحديث عن الانتاج وأدواته، وعن الصناعة المتنامية كعنصر حياتي متألق، كما لدى بروكوفييف في قصيدته خلق العالم:
العالمُ لم يشاهدْ مثلَ هذه الحيوية
اهتزاز الصواري والعوارضِ المتينة
إننا سَنُقنوِن الوقتَ الجديد
فوقَ مدى البحرِ والأرض
السماء كجردلٍ حديديٍ مقلوب
... كلُّ شيء قد انتهى وحُسم الأمر
الناسُ يُعيدون خلقَ العالم
ويصل الأمر إلى التغزل والتغني بمنتجات هذا العصر الصاخب، كالمصباح الكهربائي ، والجرار الزراعي الذي يبدو لدى بعض الشعراء كائنا حيا وداعية حديديا، يبرز كمبعوث من البروليتاريا كما لدى سميلياكوف :
إنه الأخُ الأصغرُ للمدرعة
التي ثبتت السلطةَ السوفييتية

مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات


ويلاحظ على الرغم من المحاولات الحثيثة لتطوير الأساليب الفنية طغيان التوجهات الدعائية في تلك المرحلة ، فتراجع الشعر واقعيا عن حركة الانتاج الجبارة في الحياة نفسها، وقدم نماذج مكرورة باهتة رغم تجارب الشعراء المباشرة في مواقع الانتاج ، لكن كل هذه المحاولات مع ذلك استطاعت ولو بحدود أن تشكل مرحلة انتقالية، حيث يتوجه معظم الشعراء منذ أواسط الثلاثينات ولو نسبيا نحو البنية الداخلية للإنسان الجديد، ناهيك عن أن اقتراب الشعراء من مواقع الانتاج أرهص لاقتراب الناس من الشعر، وتوسيع جماهيريته وحضوره بين البسطاء، ويبدأ الشعر بنفس الوقت بإبراز الجوانب النفسية ، والاهتمام بالغنائية إلى جانب الطابع التوجيهي والتركيز على علاقة الإنسان بالجماعة، وتنامي فكرة الخلود عبر الآخرين والتي تصلح قصيدة (موت طفلة طلائعية ) لباغريتسكي تعبيرا عنها،  فالطفلة التي لا أمل من شفائها تتجدد كأمطار الربيع بعد أن يقوم الرعد بغسل مفهوم الموت :

دمعةٌ طويلةٌ على الوجهِ المتجعد
وعبرَ نوافذِ المستشفى يهتزُ الرعد
... لكي يغني شبابنا
في هذا الجسدِ الصغير
دائما كماءِ الربيع
ومع ذلك فإن ثقل الواقع الآلي والصارم يدفع عددا من الشعراء إلى النقيض، وذلك من خلال التعبير عن التشاؤم والشيخوخة والإحساس بالعجز والغربة عن هذا الواقع ، وخاصة لدى ماندلشتام وكلويف وأخماتوفا :

مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات


إنني أرفعُ نخبَ البيتِ الخاوي
نخبَ حياتي المريرة
أشربُ لأن العالمَ قاسٍ وفظ
ولأن اللهَ لم ينقذنا

مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات

وتنتشر سمة الدعائية لتشمل البوئيما التي لم تستطع عمليا على الرغم من طولها الذي يعطيها إمكانية التنوع الخروج عن القصيدة الدعائية الممزوجة بالغنائية، فغرقت في الشعارات والأسلوب القصصي المباشر، وظل المضمون متشبثا بهزيمة الماضي القاتم، وبزوغ العصر الجديد مما وسع مجددا من تناول الصراع بين القديم والجديد، وبدت صورة الأم البسيطة الطيبة محورية ، كنموذج من القديم الذي يصعب عليه تفهم كل هذه التغييرات المتسارعة ، ويرى معظم النقاد أن قصيدة "الموطن الاخضر" لتفاردوفسكي محاولة لتطوير الجانب الملحمي، وتصاعد الحدث من خلال شخصية البطل نفسه ( الفلاح نيكيتا ) الذي يتطور مع الواقع :

الأرضُ ، أجملُ وأوضح
غدت تطَّجِعُ حولنا
وليس هناك سعادةٌ أكبر
من أن نعيشَ عليها
يبرز هذا التنامي الديناميكي أيضا في البالادا والقصة الشعرية ،حيث التركيز على الحدث السريع المرتبط بمصير كبير، مع بقاء محور التوجه الدعائي للأفكار الاشتراكية ، وسمة رئيسية للمناضل الذي عليه متابعة شحذ الهمم وقيادة المسيرة .
ولا بد من التنويه بالظلال الرومانتيكية ، وخاصة من خلال الاتكاء على الطبيعة وأجواء الريف، مما اعتبر بشكل ضمني هروبا ممزوجا بالتشاؤم، إلى جانب اتجاه آخر يستخدم هذه الأجواء في إطار إشراقي، وإلغاء المفارقات بين الريف والمدينة ،وتجاوز عقلية الملكية الفلاحية باتجاه الملكية الجماعية ،مع الاتكاء على الفولكلور والتراث الشعبي عموما، مع طابع مرح محبب كما في كاتيوشا للشاعر إيساكوفسكي التي غدت على كل لسان، وتحولت إبان الحرب إلى نشيد للأنصار، وأخذت مداها حتى عالميا . تجدر الإشارة إلى أن اتساع ظاهرة القصائد المغناة دفع إلى تطوير التعاون بين الشعراء والموسيقيين، مما وسع من انتشار هذه التجارب لتغدو ظاهرة حقيقية أواخر الثلاثينات .
بقي أن نشير إلى جانب هام آخر ، وهو تكريس وتوسيع الطابع الأممي الإنساني ، وذلك من خلال القصائد التي تتحدث عن شعوب الاتحاد السوفييتي لدى الشعراء الروس،  كما في الطرق المدهشة لتيخونوف ووجدانيات جورجية لباسترناك وأشعار عن آسيا الوسطى لفاسيليف، وعن أبخازيا لسافرونوف ، ويتم التركيز على المشاعر الأخوية بغنائية عذبة، ناهيك عن معالجة قضايا الشعوب الأخرى انطلاقا من وجود عدو طبقي واحد، وخاصة الأشعار العديدة عن أسبانيا ونصرة شعبها ضد الدكتاتورية، ويصل الأمر أحيانا حد تعميم حالات فردية كاتجاه يعكس ما يجب أن يكون كما في قصيدة "قارتي إفريقيا" للشاعر كورنيلوف الذي يتحدث عن أحد الزنوج الذي يدفعه حسه الأممي إلى القتال والموت من أجل روسيا مما يثير مشاعر شاب سوفييتي فيطمح للنضال والموت في سبيل إفريقيا:
كيفَ سقطَ في المعركة
من أجل روسيا الحميمةِ إلى قلبه
والتي كانت كالغيهبِ بالنسبة له
ولهذا سأموتُ باختياري
من أجل إفريقيتي الحبيبة
. وتعج في قصائد نهاية الثلاثينات نبرة التحذير من شبح حرب وشيكة في أوربا الأمر الذي يأخذ مدى واسعا ونوعيا في رصد ويلات هذه الحرب ومآثر المدافعين عن الوطن في مرحلة الأربعينات.

موافق

هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط .بامكانك قراءة شروط الاستخدام لتفعيل هذه الخاصية اضغط هنا