مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الخامسة - العشرينات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الأولى - إجمال مختصر
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثانية - العهد الفضي في الشعر الروسي وأهم تياراته الإبداعية (الرمزية)
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثالثة - الأكميزمية
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الرابعة - المستقبلية
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السادسة - الثلاثينيات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الخامسة - العشرينات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة السابعة – الأربعينات
- مختارات من أنطولوجيا الشعر الروسي - الحلقة الثامنة - منذ نهاية الحرب وحتى نهاية الستينات
العشرينات
أهم ما يميز العشرينات في حركة الشعر الروسي هو ذلكَ الزخم الكبير، والتنوع الواسع الذي تبدى في انتشار التجمعات الأدبية الفنية، مع تباين في توجهاتها الإبداعية ، والذي وصل أحيانا حد التناقض ، دون أن يستطيع أي تجمع أن يكون الحاضن الواقعي لمجمل حركة الحياة في تغييراتها المتسارعة، مما يجعل الحديث عن الحركة الشعرية الروسية في العشرينات حديثا عن هذه التجمعات بالدرجة الرئيسية . ولا بد من ملاحظة أن بعض هذه التجمعات الفاعلة آنذاك ابتدأت واقعيا منذ مرحلة الثورة وتابعت بنشاط في العشرينات متفرعة إلى جماعات وحلقات صغيرة وكبيرة أخرى مع متابعة لظلال الشكلية والتجريب ومحاولة إحداث ثورة رديفة في مجال الفن والأدب ومن أهم هذه التجمعات: الثقافة البروليتارية، والورشة ، وجبهة الفن اليساري ، وجماعة المصممين، والإماجينيزم، والحرس الفتي ، وتجمع الكتاب الفلاحين لعموم روسيا ،واتحاد الشعراء الروس ، وكثير غيرها مع استمرار بعض التيارات الفنية السابقة ولو بتراجع واضح .
ومن أهم وأكبر هذه التجمعات تجمع الثقافة البروليتارية ( البرولت كولت ) والتي بدأ تنظيميا منذ عام 1917 باقتراح من لوناتشارسكي، ثم انتشر في معظم المدن الروسية، وأصدر العديد من المجلات والصحف والدوريات، واهتم هذا التجمع بالكتاب والشعراء من الأصول البروليتارية إلى درجة مجافاة الكتاب من الأصول الفلاحية والابتعاد عن الانتليجينسيا، وانطلق من محاربة القديم (كالمستقبلية) ، ورغم ولاء أنصار هذا التجمع للثورة إلا أنهم فهموا شؤونها فهما خاصا بعيدا عن حركة الواقع، مما جعلها مع العديد من هذه التجمعات معيقة أكثر من كونها داعمة ، حيث دعت إلى الانقطاع الكامل عن كل ما هو سلفي، بل وحتى عن الحزب والدولة، وتبنوا شعار فلنهزم الثقافة البرجوازية كنفاية عتيقة، وكان منظرها الرئيس في البداية بوغدانوف ، ومن أشهر ممثليها ( الكساندروفسكي ، بوليتايف ، كازين،) ثم تتفرع عنها تجمعات من أهمها الورشة، ومن شعرائها (كيراسيموف ، كريليوف الكساندروفسكي،) حيث الكدح والفولاذ وهدير المصانع كما لدى ليبيدسكي:
إلى الأمام إلى الأمام
في طريقِ الفولاذ
انطلقوا بكلِّ قواكم
أخفَّ من الطيور
حارقينَ أعشابَ البؤس
بنيرانِ الشررِ المنطلقِ من إطاراتِ الحديد
وتتكاثر التفرعات والتشظيات وكذلك توحيد بعض التجمعات في بوتقة واحدة، فمن الحرس الفتي إلى الربيع العامل، إلى جمعية الكتاب البروليتاريين، إلى جماعة أكتوبر التي تلعب دورا هاما في الحركة الشعرية ، إلى جانب ( ليف ) جبهة الفن اليساري التي تتبنى معظم أطروحات المستقبلية مع تنويع في إدخال مفردات الحياة اليومية ، معتمدة على الألفاظ والإيقاعات كما لو أنها تعيد مشاهد العمل والبناء بترتيب جديد. ولا تبتعد جماعة المصممين كثيرا عن هذه الأجواء إلا أنها بالغت في اتخاذ النموذج الغربي مثالا وسعت إلى عزل السياسة عن الفن ، وقدس شعراؤها التقنية الفنية ولا شيء سواها.
في غضون ذلك تنشط جماعة الإيماجينيزم، والتي تعتمد على البنية التصويرية مبتعدة نسبيا عن هموم الحياة وحركة الواقع، ومن أبرز ممثليها ( يسينين ، كوسيكوف ، مارينغوف ، شيرشينيفيتش )، ويصل شعراء الإيماجينيزم حتى إلى تهميش الموضوع ، وتجاوز بعض القواعد اللغوية والنحوية، ويتجهون في بعض نتاجاتهم إلى الشعر الحر متكئين على بعض الأجواء الدينية، ويصدرون مجلة (فندق للرحالة نحو الواقع)، إلا أن هذا التجمع يبدأ بالاضمحلال منذ عام 1927 .
ويتنامى اتجاه الشعر الفلاحي الذي يشكل تجمعاته أيضا، من مثل ( وحدة الكتاب الفلاحين لعموم روسيا ، والمعبر ). واعتمد الشعراء ذوي النزعة الريفية بالدرجة الرئيسية على الفولكلور، وصورة القرية ونقاء الريف، وتتشبع القصائد عند هؤلاء الشعراء بألوان الطبيعة كرمز للوصول إلى الرائع والأجمل، كما لدى ناسيدكين في مجموعته الريح من الحقل:
أكثرُ خصوبةً .. وأكثرُ اخضرارا
هذه الأعشاب
وحتى الأفقُ تلوَّن للحظةٍ باللوّنِ الأخضر
ومن أشهر ممثلي هذه التوجهات يسينين، وكليويف، ورانيموف، وكليتشكوف، كما تنشط أصوات الشعراء الشباب الريفيين في تلك المرحلة وخاصة إيساكوفسكي، ودارونين، وبراكوفييف، مع
تباينات في التناول والصياغة ،بما في ذلك ظاهرة الخوف على الريف من أن تطحنه المدينة، أو عبر رصد صورة جديدة للقرية المعاصرة، وتقبل نسبي - مع ذكريات الريف- للحياة في المدينة وظروفها ، حيث لقاءات الأحبة في الشوارع الجديدة التي تعبق من خطا الحبيبة بنكهة الريف .
من جهة ثانية يتطور البطل في القصيدة العمالية وخاصة الكومسومولي، ويبدأ بالخروج من إسار تصورات توجهات الثقافة البروليتارية، ويتحرر من المبالغات والشطحات الأسطورية، وتكثر إلى جانب مفردات العمل والانتاج المصطلحات السياسية، وبعض الملامح الفلسفية في محاولة لتقديم فهم جديد للحياة، وتستفيد الحركة الشعرية من بعض الاستقرار في أجواء البناء والتقدم، فتغدو المدينة ذاتها رمزا لهذا التقدم والحيوية، وتتألق الملامح الإنسانية أحيانا كجوهر وهدف، فيتمازج البطل بعمله حتى يتقمص منجزات الجيل كما لدى كاستييف :
لقد نموتُ كثيرا
وتنمو عندي أكتافٌ فولاذية
وأيادٍ قويةٌ لا تُحدُّ
لقد تمازجتُ بحديدِ هذا البناءِ وارتفعتُ
إنني أدفعُ عوارضَ البناءِ بكَتِفيّ
الأعمدةُ العليا والسقف
أقدامي في الأرضِ
ولكنَّ رأسي أعلى من البناءْ
عموما يبقى البطل مرهونا بنموذج العامل والمقاتل الثوري، وخاصة في رصد أجواء الحرب الأهلية التي تأخذ مدى واسعا حتى بعد انتهاء معاركها وتشظياتها، وذلك من خلال استنهاض الذكريات واستخلاص الدروس والعبر، والتأكيد على الغيرية ونكران الذات، وانعكاس أجواء مرحلة نيب ( مرحلة السياسة الاقتصادية الجديدة) الاضطرارية إثر الحرب الأهلية .
من جهة ثانية تستمر الانطوائية، واللجوء إلى الأجواء الصوفية والمشاعر الداخلية لدى بعض الشعراء الذين لم يستطيعوا ان ينخرطوا تماما في حومة الواقع الجديد، مما يدفعهم إلى استنهاض الماضي كحلم يتعذر الوصول إلى استعادته، مع مسحة حزن وتشاؤم وحيث يبدو الصراع غريبا بالنسبة لهم، والحمر والبيض سواء فالموت هو الذي ينتصر كما لدى سفيتايفا :
كان أبيض ، صار أحمر
الدماءُ صبغَته
كان أحمر ، صار أبيض
الموتُ انتصر
ويغوص آخرون كباسترناك في معظم قصائده في أجواء فلسفية، باحثا عن جوهر الوجود وهارمونية الحياة وكنه معانيها، دون اكتراث بمجريات الحياة الواقعية من حوله ، وتكثر التوجهات الأسطورية والولع بالاستعارات لدى ماندلشتام ، وتقترب بعض نتاجات كبار الشعراء في العشرينات من الفانتازيا وحب الجمال الخالد والاحساس بالضآلة أمام جبروت الوجود .
عموما يمكن القول ان مرحلة العشرينات هي مرحلة التكوينات الجديدة في تجريبها، ومحاولاتها المتنوعة لتقديم لوحة الواقع من زوايا مختلفة، وذلك على الرغم من تخبط مساراتها التي تقترب من الواقع من خلال تأثير هذا الواقع، بزخمه وثقله على العمل الإبداعي، عبر المتغيرات مما أسفر عن توسيع المجال اللغوي، والخروج عن التقليد وكسر الإيقاع اللفظي السابق، ومحاولة أدخال لغة الشارع والحياة اليومية في لحمة العمل الشعري .