مذكرات ولد قابلية.. عبد الحفيظ بو الصوف ونشأة الاستخبارات الجزائرية.. "الوجه المخفي للثورة"
"لكي لا ينس أحد" ظروف الثورة الجزائرية وحرب تحرير البلاد من الاحتلال الفرنسي (1830 - 1962)، يضع دَحُّو ولد قابْلِية مذكراته بين أيدي الجزائريين كشاهد على الثورة وأحد صانعيها.
يروي ولد قابلية، البالغ من العمر 87 عاما، مشواره كأحد أبرز قادة جهاز الاستخبارات الجزائرية، أثناء ثورة التحرير وبعدها، في كتاب من 446 صفحة صدر عن دار "القصبة" للنشر والتوزيع بالجزائر، وهو متوفر في مكتبات البلاد منذ أمس الأحد.
بعد نحو سنتين من الدراسة والنضال الوطني قضاهما ولد قابلية في تولوز بفرنسا، اختاره العقيد عبد الحفيظ بوالصوف في سنة 1958، في خضم حرب التحرير، ليكون من بين رجاله في وزارة التسليح والاتصالات العامة التي اشتهرت في الجزائر باسمها المختصر باللغة الفرنسية "المالغ" (M.A.L.G).
ولم يكن بو الصوف، قائد الجهاز ومؤسسه، بكل حنكته ودهائه ذلك الرجل الذي يختار كل من هب ودب للعمل معه، وهو الذي يشهد له الأعداء والأصدقاء بعبقريته في مجاله. وتعترف له بكفاءته العالية مختلف الأجهزة الاستخباراتية الدولية، وعلى رأسها الاستخبارات الفرنسية ونظيرتها المصرية. الأولى بحكم العداء والحرب السرية الطويلة بينهما، والثانية بحكم التعاون والدعم المصري الكبير للثوار الجزائريين حتى أن فتحي الذيب، رجل استخبارات جمال عبد الناصر القوي، أصبح، حسب شهادات، يتفادى عقد اللقاءات مع بو الصوف في مكتبه حتى لا يرى ولا يلاحظ بو الصوف ما لا يجب أن يراه ويلاحظه وحتى لا يستنتج ما لا يحق له استنتاجه من أسرار عن مصر. وقال عنه صحفي "نيويورك تايمز" الأمريكية والكاتب في الوقت ذاته جوزيف كرافت إن بو الصوف يتمتع "بحس قوي في الملاحظة والاستباق"، مثلما يتفق الجميع على أنه كان يشك في كل شيء ولا يطمئن لشيء حتى يتأكد منه بنفسه.
مع هذا الرجل، اشتغل ولد قابلية لسنوات طويلة على مشاريع جمع المعلومات الاستخباراتية وتسليح الثورة في أرض المعركة بالتجهيزات الحديثة الضرورية لمواجهة القوات الاستعمارية الفرنسية والقوات الداعمة لها من الحلف الأطلسي في حرب شرسة وعالية الكلفة المادية والبشرية.
وشغل ولد قابلية إلى جانب بو الصوف، الذي تصدر اسمه عنوان مذكراته، عدة مناصب خلال الثورة متوليا العديد من المهام الحساسة في ليبيا وعلى الحدود التونسية وفي مصر وسويسرا والاتحاد السوفياتي. وبرفقة رجال بو الصوف، قام ولد قابلية بتأمين الثورة وجيشها وتوفير المعلومات للقادة، والسلاح والأجهزة الاستخباراتية للجيش، والمال، ونسج العلاقات مع القوى القادرة على الدعم وأجهزة استخباراتها بما فيها السوفياتية والأمريكية واليوغسلافية والمصرية والتونسية والمغربية وغيرها. وشارك في العمل على الملفات عالية الحساسية الخاصة بالتفاوض في إيفيان مع فرنسا والتي أفضت إلى الاستقلال. ونجح هو ورفاقه في "المالغ" تحت إشراف بو الصوف في ربط أول عملية اتصال بالراديو بين القادة العسكريين في أرض المعركة بالجزائر والقادة العسكريين خارج البلاد في سرية تامة.
وما لا يعرفه أيضا الكثير من الجزائريين عن ولد قابلية، الذي أصبح وزيرا للداخلية في عهد بوتفليقة ووجهت له انتقادات كثيرة من طرف معارضين، هو أنه "شقيق شهيدين خلال الثورة: أخوه وأخته".
في مذكراته، يفتح ولد قابلية الأبواب على مصراعيها على أسرار لم تكن معروفة حتى الآن ويوضح أخرى يشوبها الكثير من الغموض والالتباس. يتحدث ولد قابلية عن قتل أحد أكبر سياسيي الثورة الجزائرية، وهو عبّان رمضان، سرا في المغرب بعد استدراجه من طرف صديقه بو الصوف إلى هذا البلد بغرض إعدامه قبل الإعلان آنذاك أنه "سقط في ميدان الشرف" بسبب شبهات حول تصرفاته وقراراته وخلافات بين القادة التاريخيين. يتحدث ولد قابلية أيضا عن العقيد هواري بومدين الذي سيصبح رئيس الجزائر بعد انقلابه على أحمد بن بلة عام 1965، ويكشف تفاصيل خلافات وصراعات وحسابات سياسة وتوجهات ونفوذ بين القادة وارتباطاتها الدولية والإقليمية. ويشرح قضية "ضباط فرنسا" وهم الجزائريون الذين فروا من الجيش الفرنسي ليلتحقوا بالثورة ولو متأخرين وتحوم حول بعضهم شبهات التعاون مع الفرنسيين لاختراق الثورة ثم الدولة المستقلة، ومن بينهم الرجل القوي في الثمانينيات والتسعينيات الجنرال الراحل العربي بلخير ووزير الدفاع الهارب في إسبانيا خالد نزار. مثلما يغوص في تفاصيل تجارب شخصية تبقى في الواقع شهادة حية على الأجواء التي كانت تتحرك فيها الاستخبارات الجزائرية ورجال الثورة بحلوها ومرها وقضايا أخرى حساسة عديدة.
مذكرات دحو ولد قابلية التي تحمل عنوان "بو الصوف و"المالغ"..الوجه المخفي للثورة" تبدو منجما للمعلومات حول تاريخ الثورة في تفاصيلها المحلية والعربية والدولية التي بقي جلها مجهولا أو غامضا حتى اليوم. ولا شك أنها ستحيي الجدل حول الكثير من الملفات الشائكة في الجزائر.
المصدر: وسائل إعلام جزائرية.